السبت، 2 نوفمبر 2019

هل يجوز ان يقتل اليهودي نفسه؟

**************************
جاء بسفر التكوين ما يحذر من قتل الإنسان نفسه, نقرأ:
(5وَأُطَالِبُ أَنَا بِدَمِكُمْ لأَنْفُسِكُمْ. مِنْ يَدِ كُلِّ حَيَوَانٍ أُطَالِبُ بِهِ، وَمِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَيْضاً أُطَالِبُ الأَخَ بِنَفْسِ أَخِيهِ الإِنْسَانِ) التكوين (9 : 5)
والمعنى أن دم الإنسان لا يملك التصرّف فيه غير الرب, فكل هؤلاء الواردة صفاتهم في الآية, هو قاتل, ومقترف لإثم عظيم, ومستحق للموت, خارج أحكام عقوبات المحكمة الأربع المعروفة , والمراد أن أمره بيد السماء (بيد الرب).

يفهم بعض المفسرين أن سبب تحريم قتل النفس يرجع إلى وصية "لا تقتل" (التكوين 20: 3), التي فُسرت بـ "لا تقتل نفسك – وتجعل دمك يطالبك بحقّه", والحجة في ذلك "ألا تُقتل بيد من سفكت دمه".
يضاف إلى تحريم الانتحار أو قتل النفس, في اليهودية, وعقوبة السماء (وهى عقوبة غير واضحة المعالم وتحتاج بحث منفصل) للقاتل, هناك نتائج شرعية لمن يقتل نفسه عمدًا, خاصة فيما يتعلق بأحكام الحداد.
والذي يقتل نفسه لا ينشغل به في أي أمر. يقول الرابي إسماعيل: واحسرتاه, لقد ذهبت نفس, واحسرتاه لقد ذهبت نفس". وقال الرابي عقيبا: يُترك وشأنه. لا تبارك هذه النفس ولا تُلعن.
لا يناح عليه, ولا يُقرع قميص ولا يُرثى، لكن يُقف عليه، وتقرأ عليه بركة الحداد, لأنه في ذلك تكريم للحياة وقيمتها. واختصارا يهتم بكل ما هو تكريم للحياة.
ومن هو المنتحر/ قاتل نفسه؟ 
ليس هو من تسلّق قمة شجرة مرتفعة وسقط فمات, وليس هو من صعد أعلى سطح بيته وسقط فمات, بل هو من قال: سأتسلق الشجرة وألقي بنفسي من أعلى قمتها, أو صعد إلى سطح مرتفع وقال سألقي بنفسي كي أموت" وشاهده الناس وهو يتسلق الشجرة أو يصعد الى سطح مرتفع, والقى بنفسه فمات, فهذا لا يُفعل له أي شيء.وهذا هو من يطلق عليه منتحر أو قاتل نفسه عمدًا. 
أما من يتم العثور عليه مخنوقًا أو معلقًا, أو مقتولا وجثته ملقاة بجوار سيف, فهذا يعد منتحرًا لكن ليس عمدًا.
وقد خضعت هذه الأمور لحكم الشريعة وجدير بالذكر أنه على الرغم مما جاء في شأن المنتحر عمدًا, من عدم الاكتراث به وعدم رثائه, او تمزيق الثياب عليه, فإن الواجب يحتم دفنه, لأن في الدفن مراعاة لكرامة الإنسان ولقيمة الحياة, وكذا مراعاة لمشاعر أفراد عائلته. 
على ما يعتمد حظر قتل اليهودي نفسه
يمكن اعتبار عقيدة أن الإنسان خُلق على صورة الله منطلقًا لتحريم قتل اليهودي نفسه, ليس هذا وحسب بل حتى خمش جسده أو العبث بجسده بصورة يؤدي إلى تشويهه, لأن الله حين خلق الإنسان – بحسب التوراة – خلقه على صورته. كما يعتقد بعض آخر أن كل يهودي به جزء من روح الله فلهذا لا يجوز العبث بالنفس اليهودية لأن في ذلك اعتداء مباشر على الخالق! ويرى مفسرون أن التحريم يأتي من ناحية أخرى لرفع قيمة "قداسة الحياة", وان الإنسان بعامة هو صنعة يد الخالق نفسه, وأن حياته هى مجرد وديعة عنده من أودعها في يده هو الله, وأن الإنسان ليس حاكمًا على نفسه ولا يمكنه التصرف حيالها كما يتراآى له, وهذا على العكس من أصحاب الفكر الليبرالي الذين يتبنون عقيدة أن الإنسان حرّ في نفسه وذاته مستقلة تمامًا. 
ومن الجدير بالمعرفة في هذا الشأن رأي دفيد بن شلومو بن زمرا (من حكماء مصر وصفد في القرن السادس عشر من ميلاد المسيح عليه السلام), المشهور الذي ورد في موضوع آخر لكنه جدير بمعرفته في موضوع قتل اليهودي نفسه, حيث قال:
(لأن الروح ليست من ملك الإنسان بل ملك الرب, طبقًا لما جاء (هَا جَمِيعُ النُّفُوسِ هِيَ لِي. نَفْسُ الأَبِ كَنَفْسِ الابْنِ كِلْتَاهُمَا لِي) (حزقيال 18 : 4) لذا ليس لأي إنسان قتل نفسه, كما أن ليس للإنسان سلطة الاعتراف على نفسه بفعل جرم يستوجب عليه الموت, لأن نفسه ليست ملكًا له)
ومع ذلك نجد في الكتاب المقدّس ما يبدو متعارضًا مع حكم تحريم قتل النفس, فهناك قصتان توحيان بجواز قتل اليهودي نفسه, لكن يرى المفسرون أنها حالات استثنائية تشذّ عن القاعدة.
فشاول ملك إسرائيل (أول ملك في إسرائيل) أنهى حياته في الحرب ضد الفلسطينيين. ويصف الراوي التوراتي الطريقة التي أنهى بها حياته حتى لا يقع في أيدي العدو:
5فَسَأَلَهُ دَاوُدُ: «كَيْفَ عَرَفْتَ بِمَوْتِ شَاوُلَ وَابْنِهِ يُونَاثَانَ؟» 6فَأَجَابَ: «صَادَفَ أَنَّنِي كُنْتُ فِي جَبَلِ جِلْبُوعَ عِنْدَمَا رَأَيْتُ شَاوُلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ وَعَرَبَاتُ الأَعْدَاءِ وَفُرْسَانُهُمْ يَتَعَقَّبُونَهُ. 7وَمَالَبِثَ أَنِ الْتَفَتَ وَرَاءَهُ. وَحِينَ شَاهَدَنِي استَدْعَانِي إِلَيْهِ. 8وَسَأَلنِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَجَبْتُ: عَمَالِيقِيٌّ 9فَقَالَ لِي: قِفْ عَلَيَّ وَاقْتُلْنِي لأَنَّنِي أُقَاسِي مِنْ فَرْطِ الأَلَمِ، وَالْحَيَاةُ مَازَالَتْ تَسْرِي فِي جَسَدِي. 10فَوَقَفْتُ عَلَيْهِ وَقَتَلْتُهُ، لأَنَّنِي أَدْرَكْتُ أَنَّهُ مَيْتٌ لاَ مَحَالَةَ بَعْدَ سُقُوطِهِ، فَأَخَذْتُ الإِكْلِيلَ الَّذِي فَوْقَ رَأْسِهِ وَالسُّوَارَ الَّذِي عَلَى ذِرَاعِهِ وَأَتَيْتُ بِهِمَا إِلَى سَيِّدِي) صموئيل الثاني 1: 5 – 10)
والتعليل هنا هو أن شاؤل عرف وتيقن أن موته واقع لا محالة, لأنه في حرب وأن صموئيل كان أخبره بذلك, مع ساحرة كانت في قرية تسمى "عين دور", وفسرت عبارة التوراة (5وَأُطَالِبُ أَنَا بِدَمِكُمْ لأَنْفُسِكُمْ) (التكوين 9 : 5), أن الرب هنا في حالة قتل اليهودي نفسه طلب منه أن يضع حدًا لحياته! أي أطلب من يدكم قتل أنفسكم.). ففضل شاؤل قتل نفسه على أن يقبض عليه ويقع في الأسر, ويُنكّل به.
وقد يكون تصرف الملك شاؤل وتفسير الفقرة التوراتية التي اعتمد عليها المفسرون هى ما دفع إلى ما يعرف في التاريخ اليهودي , إن كان صادقًا, بقلعة ماسادا, أو بالتسمية الفلسطينية الأصلية تل مصعدة, وتفاصيلها على الوجه التالي: 
كان تمرد يهودي حدث في فلسطين ضد الوجود الروماني , حوالي سنة 70 م, وكانت فلسطين من البلاد الواقعة تحت سلطة الامبراطوية الرومانية آنذاك.
وكان تل مسعدة/مصعدة الفلسطيني مكانًا استراتيجيًا لأوقات الحرب نظرًا لارتفاعه واشرافه على المنطقة المحيطة لمسافات بعيدة, من أجل ذلك بني "هيرودس" عليها قصرًا وحصّنه بالحراسات والدفاعات وعرف بالقلعة, للجوء إليه وقت الحاجة, لكن الرومان احتلوا هذه التلّة الاستراتيجية, بلغة اليوم, واستطاعت مجموعة من اليهود المتشددين الاستيلاء عليها, وقتلوا جميع أفراد الحراسة الرومان الذين كانوا في هذه القلعة, بعد أن وعدوهم بالأمان إن هم استسلموا؛ وهذا ما يفسر عدم استسلام اليهود بعد ذلك.
كانت هذه المجموعة منشقّة عن يهود القدس تحت قيادة شخص يدعى "مناحم الجليلي" لكنه كان ادّعى أنه المَشايَّح الذي ينتظره اليهود ولذلك قُتل في القدس على يد متمردين.
لكن بقية جماعة مناحم فروا الى القلعة وتحصّنوا بها بقيادة شخص يدعى "اليعازر بن يائير", وهو أحد أفراد عصبة تسمى "عصبة الخنارجر", واختبأوا داخل القلعة حتى نهاية الحرب ولم يقدموا اية مساعدة ليهود القدس الذين كانوا محاصرين.
ترك الرومان قلعة ماسادا إلى أن فرغوا من الإجهاز على التمرد اليهودي نظرًا لعدم أهميتها بالنسبة لأماكن أخرى . ثم قامت قوّة رومانية بقيادة شخص يدعى "فلافيوس سيلفا" بحصارها الذي دام حوالي ثمانية أسابيع, شقّت خلالها طريقًا ارتفاعه حوالي 170 مترًا, واحدث ثغرة في جدرانها, وكاد أن يجهز على من فيها لكن القائد اليهودي "اليعازر بن يائير" (بحسب رواية المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس) تمكن من اقناع رفاقه بممارسة انتحار جماعي بدلا من الوقوع أسرى في أيدي الرومان.
وزعم اليعازر بأن الانتحار هو ما تأمر به الشريعة, على الرغم من ان ذلك يتنافى ما تأمر به الشريعة من ضرورة الحفاظ على الحياة واختيارها (سفر التثنية 30 : 19), ما أدى إلى انتحار حوالي 1000 رجل وامرأة وطفل, كما أضرموا النار في منازلهم وفي مخازن المؤن.
يزعم المؤرخ "يوسيفوس" أن امرأتين وخمسة أطفال اختبأوا في أحد الكهوف أثناء تنفيذ العملية, وهم الذين رووا حكاية الانتحار. وقد تحولت ماسادا بعد تلك الحادثة إلى موقع عسكري روماني ثم إلى قلعة صليبية.
وقد أثارت قصة ماسادا هذه شكوكاً كثيرة، حتى عند بعض علماء الآثار اليهود الذين يؤكدون أنها قصة خرافية وأسطورة ملفقة، إذ لا يمكن البرهنة تاريخياً على سلامة الاكتشافات الأثرية التي تستند إليها هذه القصة. والمصدر الوحيد للقصة هو يوسيفوس، وهو كاتب لا يُعتد به كمؤرخ.
يتبع للأهمية
د. سامي الإمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق