أعجبتني مقدمة لبحث انقلها لما فيها من حسن وتوافق وصف الظروف حين دونها صاحبها مع ظروف الحال في أيامنا هذه ويمكننا القول إن توافق معانيها ينسجم مع ظروف أي وقت!
(إن الجدل فى القضايا الخلافيه لن ينتهى ببحث يحرَر أو حتى بكتاب يُؤلَف، وما دامت أسباب الاختلاف قائمه فلن يزول الاختلاف بين الناس، وإن كانوا مسلمين متدينين بل قد يكون التدين أحيانًا من أسباب حدّة الخلاف حيث يتحمس كل طرف لرأيه الذى يعتقد أنه الحق، سيظل الاختلاف قائمًا ما دامت أفهام البشر متفاوته فى القدره على الاستنباط ومدى الأخذ بظاهر النص أو بفحواه، بالرخصة أو بالعزيمة، بالأحوط أم بالأيسر، سيظل الاختلاف قائما مادام فى الناس من يأخذ بشدائد ابن عمر ومن يأخذ برخص ابن عباس، ومادام فيهم من يصلى العصرفى الطريق ومن لا يصليها إلا فى بنى قريظة، وقد اختلف الصحابه ومن تبعهم بإحسان فى فروع الدين فما ضرهم ذلك ووسع بعضهم بعضاً، وصلى بعضهم وراء بعض، دون أن يكفر بعضهم بعضًا ولا حتى ينكر بعضهم على بعض).
ومع إيماننا بأن الخلاف سيظل قائمًا فقد خضت الكتابة في هذا المنشور إيمانًا مني بأن صاحب المعرفة ليس عليه أن يصمت حين يجدها تنحرف عن الصواب الذى هو أولى الناس بتوضيحه دون حكر منه على المعلومة فالمصادر متاحة والمراجع كثيرة ولا يتبقى غير العمل والبحث لمحاولة الوصول إلى حقيقة ما فيه خلاف أو حقيقة معلومة ليس عليها خلاف لكن ينفرد شخص بالتمسّك بصحتها وهى غير ذلك!
والسؤال الحائر الآن على ألسنة الناس الذي يبحث عن إجابة موثقة هو:
هل النقاب شريعة أو عرف يهودي؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال لنا سؤال: لماذا أصبح التلمود الآن مصدرًا موثوقًا يستند إليه من يريد الاستدلال على مسألة خلافية في شأن يخص المسلمين؟ في حين أنه في غير مسألة النقاب – البريء منها! – هو كتاب الإجرام الذي يستمد منه اليهود كل سلوكياتهم التي لا يرضى عنها غيرهم!!
أما عن إجابة السؤال فهى : لا!
التفصيل: توجب المشنا؛ المصدر الثاني للتشريع في اليهودية, تغطية رأس المرأة المتزوجة, وتحظر خروجها إلى الأماكن العامة بشعر مكشوف. وقد استدل حكماء المشنا من آية وردت بالتوراة أن المرأة المتزوجة لا تخرج من بيتها سافرة. وقد وردت تلك الآية في سياق تشريعات المرأة المنحرفة! (سوطاه) وهى المرأة التي يتهمها زوجها بالزنى أو يشكّ في سلوكها, لكن ليس لديه شهود, غير اتهامات بالشك. وللفصل في هذه المسألة تأمر التوراة الكاهن بأن يأتي بالمرأة ويجعلها تكشف رأسها (سفر العدد 5 : 18). فقد استدل الحكماء من ذلك أن المرأة المتزوجة, في ذلك الزمن, اعتادت تغطية رأسها وستر شعرها حتى لا ينكشف.
(لاحظ أن الحديث عن مجرد ستر شعر الرأس وليس كامل الرأس كما في النقاب).
وهناك خلاف بين التلمودين البابلي والأورشليمي في هذا الموضوع :
فالتلمود البابلي, وهو الذي دوّن في بابل قديمًا (العراق حاليًا), يجعل الأمر سهلا ويُلزم المرأة المتزوجة بغطاء الرأس في الأماكن العامة فقط. (תלמוד בבלי, מסכת כתובות, דף עב עמ' א).
أما التلمود الأورشليمي؛ وهو الذي دوّن في فلسطين, فيحظر على المرأة التجوّل دون غطاء رأس حتى لو كان في الأماكن الخاصة (كفناء البيت). ويذكر التلمود, كدليل على ذلك, قصة امرأة كانت تعمل بائعة للطحين (القمحيّة) أم رابي إسماعيل الكاهن الأكبر, التي حظيّ أبناؤها السبعة بمنصب الكهانة الكبرى. وحينما سُئلت ما الذي فعلَته حتى احتل أبناؤها تلك المكانة الرفيعة أجابت : بأن جدران بيتها لم تر مطلقًا شعر رأسها. وعلى الرغم من أن "كثيرًا من النساء صنعن مثل صنيعها ولم يثمر" فإن قصة تلك المرأة تُعدّ رمزًا على مرّ الأجيال للمرأة المحتشمة والسلوك الذي يجب اتباعه. (תלמוד בבלי, מסכת יומא, דף מז עמ' א).
وقد وصفت آداب العفة هذه في المشنا والتلمود البابلي بأنها من العقيدة اليهودية (خلافًا لعقيدة موسى) أي أنها أحكام للعفة قبلها الإسرائيليون على الرغم من أنها لم تأت في التوراة. والمرأة التي تتجاوزها تعرّض نفسها للطلاق دون الحصول على نفقات العقد. (משנה, מסכת כתובות, פרק ז משנה ו).
وقد سنّ الراب "يوسف كارو" في كتابه "شولحان عاروخ" تشريعًا, بعد ختام التلمود بألف سنة, نصه :
"أن بنات إسرائيل لا يذهبن إلى السوق حاسرات الرأس, سواء العزبة أو المتزوجة"
(שולחן ערוך, אבן העזר, סימן כא סעיף ב).
ومع ذلك فإن المرأة المتزوجة يمكنها تغطية شعرها بغلالة رقيقة فقط – منديل – طالما كانت في فناء بيتها, أما إذا خرجت للأماكن العامة فيجب أن تضيف على هذه الغلالة غطاء آخر يستر الشعر تمامًا.
واستنتج الحكماء أن غطاء الرأس الذي يجمع الشعر ولا يستر الرأس تمامًا (الشبكة) لا يخالف التشريع. وبمرور الزمن أضيفت محاذير كجزء من كمال عفّة النساء ما أدى إلى توسيع نطاق الأماكن التي تجب على النساء تغطية رؤوسهن فيها. وبينما يسري هذا الحظر, على الأماكن العامة فقط, فإن أعراف العفة والاحتشام شددت الأحكام ووسعت المجال وجعلت الحظر يشمل أيضًا الانتقال بين الساحات والممرّات الداخلية.
لكن الحظر الأكثر تشددًا في شأن تغطية رأس المرأة يتضح في كتاب الـ "زوهر" فيحظر على المرأة أن تظهر حاسرة الرأس حتى لو كانت في بيتها, وعليها أن تحرص على عدم إظهار حتى خصلة واحدة من شعر رأسها لأهل بيتها (ספר הזוהר, כרך ג - במדבר, פרשת נשא, דף קכה עמ' ב).
ومع أن كتاب الزوهر ليس كتابًا تشريعيًا فإن بعض الأسر, التي تتمسك بالطرق الصوفية اليهودية, تسير على هديه وتتبع تعاليمه في هذا الشأن. فيرتدي بعضهم رجالا ونساء غطاءين للرأس؛ كيباه وفوقها قبعة للرجال, أو وشاح وفوقه قبعة للنساء, لأسباب فكرية صوفية : فالغطاءان يمثلان مستويين للتفكير والتأمل, أو مستويين في مخافة الرب.
وقد أصدر أحد كبار المرجعيات الدينية, الراب "موشى پينيشتاين" (1895 – 1986) حكمًا يسمح للمرأة بأن تكشف شعر رأسها مادامت في بيتها مع زوجها وأهل بيتها. وأن قصة بائعة الطحين التي وردت بالتلمود, التي ذكرناها سابقّا, هى أمر استثنائي لأننا لم نسمع عن عفّة كهذه حتى في الأجيال السابقة.
(שו"ת איגרות משה, אורח חיים, חלק ה סימן לז).
جدير بالذكر أن التشريع يتناول ستر شعر الرأس ولا يتطرق أبدًا من أي وجه إلى ستر الوجه وهذا يدل على عدم جواز الاستناد إليه في مسألة النقاب!
ولنا أن نفكر في قول المرأة بائعة الطحين "أن جدران بيتها لم تر شعر رأسها" !!
لماذا لم تقل لنا كيف كانت تغسل شعرها؟ وكيف كانت تصففه بالمشط؟ هل من تحت غطاء شعرها؟ أم كانت تسكن في عراء دون جدران؟!
وكما قرأنا فإن هذه القصة رفضها المشرعون لأنها شاذة ولا تساير العقل وانتهوا إلى عدم الالتفات إليها.
فليس هنا نقاب بالمرة!!
ويلاحظ أيضًا أن اليهودية تتحدث عن ستر شعر رأس المرأة المتزوجة ولم تذكر شيئًا عن المرأة العزبة أو غير المتزوجة.
أما قصة برقع الزانية التي – يشاع بحسبها أن النقاب كان زي الزانيات - فنورد فيما يلي, القصة كما ذكرت في التوراة يستدل منها أن "ثامار" لم تضع الغطاء على وجهها إلا حينما أرادت أن تتقمص شخصية الزانية بتمامها شكلا ومضمونًا للإيقاع بحميها (يهودا), ابن يعقوب عليه السلام, في شرك معصية الزنا؛ حاشاه ذلك, فنقرأ :
بعد زمن طويل ماتت زوجة يهودا "بَتْ شُوَّع", وكان يهودا ذاهبًا إلى جزّاز غنمه في تمنة (اسم بلدة), برفقة صاحبه "حيرة" العدولامي (نسبة إلى عدولام اسم بلدة)
فقيل لـ "ثامار: هوذا حموك قادم لتمنة لجزّ غنمه.
فنزعت ثياب ترملها (وكان زوجها "عيرا" ابن يهودا توفي)، وتبرقعت وتلفعت وجلست عند مدخل عينايم (اسم بلدة) التي على طريق تمنة، لأنها عرفت أن شيلة قَد كبر وأنها لن تزفّ إليه (وكان الشرع يقضي بأن يتزوج بها بعد وفاة أخيه؛ زوجها.
فحينما رآها يهوذا ظنها زانية لأنها كانت مُبرقعة، فمال نحوها إلى جانب الطريق وقال: دعيني أُعاشرك. ولم يكن يدر أنها كنته.
فقالت: ماذا تعطيني لكي تعاشرني؟ فقال: أبعث إليك جدي ماعز من القطيعِ.
فقالت: أتعطيني رهنًا حتى تبعث به؟
فسألها: أي رهن أُعطيك؟
فأجابته: خاتمك, وعصابتك, وعصاك.
فأعطاها ما طلبت، وعاشرها فحملت منه.
ثم قامت ومضت، وخلعت برقعها وارتدت ثياب ترمّلها.
وحينما أرسل الجدي مع صاحبه العدلامي ليسترد الرهن من يد المرأة لم يجدها.
فسأل أهل المكان: أين الزانية التي كانت تجلس على الطريق في عينايم؟
فقالوا: لم تكن في هذا المكان زانية.
فعاد إلى يهوذا وقال: لم أجدها؛ وكذلك قال أهل المكان: لم تكن ههنا زانية.
فأجاب يهوذا: فلتحتفظ بما عندها، فلست أُريد أن يسخر الناس مني. لقد بعثت بهذا الجديِ أجرة لها ولكنك لم تجدها.
وبعد مضي ثلاثة أشهر قيل ليهوذا: ثامار كنتك زنت، وحبلت من زناها.
فقال يهوذا: أخرجوها لتحرق (بحسب أحكام الشريعة اليهودية).
وحينما أُخرجت أرسلت إلى حميها قائلة: أنا حُبلى من صاحب هذه الأشياء. تحقق لمن هذا الخاتم والعصابة والعصا؟ فأقرّ بها يهوذا وقال: هي حقًا أبرّ مني، لأنني لم أُزوجها من ابني شيلة. ولم يعاشرها في ما بعد.
وحينما أزف موعد ولادتها إذا في أحشائها توأمان. وفي أثناء ولادتها أخرج أحدهما يدًا فربطت القابلة حولها خيطًا أحمر، وقالت: هذا خرج أولاً. غير أنه سحب يده فخرج أخوه، فقالت: أي اقتحام اقتحمت لنفسك؟ لذلك دعي اسمه فارص (ومعناه: اقتحام). وبعد ذلك خرج أخوه ذو المعصم المطوق بالخيط الأحمر فسمّي زارح (ومعناه: أحمر، أو إشراق (سفر التكوين/الإصحاح38),
والعبارة المقصودة في هذا النص هى : حينما رآها يهودا ظنها زانية لأنها كانت مبرقعة".
. . . . . . .
فهذه القصة يعود زمنها إلى قبل نزول التوراة بأكثر من على الأقل 300 سنة ولا يجوز نسبتها إلى التوراة!
فضلا عن ذكر القرآن الكريم أن اليهود حرفوا التوراة وزوروا فيها كثيرًا فلماذا نتخذها مصدرًا موثوقًا في مثل هذا الافتراء على سيرة الأنبياء الآن؟
(يتبع)
د. سامي الإمام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق