القدر من المسائل التي شغلت عقول الناس وتفكيرهم عبر تاريخ البشرية الطويل وكان ممّا أثار جدالات واسعة بين العلماء؛ ماهو القدر؟ وهل يمكن التدخل فيه بالتغيير سواء لأنفسنا أو للآخرين؟ أم أن القدر مفهوم له معنى ثابت لا يتغير وهو ما كُتب على الإنسان خوضه عبر مسيرة حياته! لا مناص منه ولا حيلة فيه.
سوف لا تكون الإجابات المستخلصة من المصادر العبرية شاملة أو محكمة أو نهائية في موضوع لم تستقر في توصيفه العقول البشرية والأفهام ولم تحدد له إجابات قاطعة حاسمة حتى الآن!
سأحاول في هذا المنشور تقديم مجموعة من الإجابات عن أسئلة القدر, في اليهودية, ولا ندّعي عصمة هذه الاجابات التي ستعتمد في جانب كبير منها على علم "القبّالا" اليهودية الشهير فيما يتعلق به.
هل القدر أعمى؟ أم يمكن توجيهه إلى مناطق نريدها؟
ترى القبّالا أن الإنسان حين يولد يكون ضعيفًا بل عاجزًا عن فعل أي شيء ولا سيطرة له على الأمور وليس له خيار تجاه أشياء جوهرية ومصيرية؛ كيوم ميلاده, وساعته, ومكانه, ومن والداه, وما جنسه المختار أذكر أم أنثى؟, وما اسمه, وموعد وفاته ومكانها وغير ذلك من مصائر وأقدار غامضة ممتدّة العمق!
يعتقد علماء اليهودية في وجود مفهومي الجبر والاختيار معًا؛ أي: هناك قَدَر وهناك اختيار في الآن نفسه. لكن ما الفيصل في هذه المسألة؟
تعلن القبّالا أن ليست هناك صدفة في الحياة, وعلى ذلك فإن لكل حدث في الحياة أسباب متجذّرة. فموضوعات مثل الحسد, وسوء الحظ في الزواج, والحمل, والرزق, والحوادث, والإخفاقات والنجاحات, كل ذلك لا يحدث هباء بدون أسباب ومسببات وعلى ذلك يمكن توقع أهمية حاسمة لكل حدث في حياة الإنسان.
يرى الحكماء أن هناك قوانين دقيقة غاية الدقة والإحكام بدرجة مثيرة للدهشة في منظومة الخلق وكيف يمكن تغييرها إلى وجهة مرادة وتوجيهها, مثل كيف يمكننا أن نكون في موقف إيجابي مؤثّر أو في موقف سلبي متأثر فقط! من منّا لم يقف مشدوهًا متعجبًا أمام تقلبات الحياة ولم يتساءل عن: منْ هو, وما هى تلك القوّة الغامضة الهائلة التي تقف وراءها, ومن المسئولة عن سلوكنا بطريقة معينة تجاهها؟ تجعلنا نتساءل كيف تصرفنا بهذه الطريقة؟ الخاطئة! ولماذا يحدث هذا الآن؟ ولماذا لشخص بعينه؟
هل الأقدار عشوائية؟
جدير بالعلم أن النمط الأساسي لمسيرة الحياة – من وجهة نظر قبّالية – غير قابلة للتغيير فهى محددة من قبل ميلاد الإنسان, ومع ذلك فللإنسان حرية اختيار الأفعال بشكل كبير بدرجة تؤثر في حظه بعلّة كونه "أفضل المخلوقات" كما هو مدوّن : كل شيء متوقع والفرصة ممنوحة للإنسان بأعماله . . فكل شيء بيد السماء إلا الخوف من السماء"؛ ومعنى العبارة الأخيرة "إلا الخوف من السماء" أن سير الإنسان سيرًا مستقيمًا كما أراد الله للعباد يجعله في منأى من عقاب الله !
ويعتقد القباليون أن كل شيء يتم تحت سلطان العناية الإلهية, وكل الصفات الشكلية وطرق الحياة مجبولة في الإنسان منذ وجوده في بطن أمه وقبل أن تنفخ فيه الحياة.
جاء بالتلمود : أن ملَكًا مسئولا عن الحمل يتناول نطفة المخلوق ويضعها أمام الرب, ويقول:
ماذا تقول في هذه النطفة؟
أصاحبها قوي أم ضعيف, حكيم أم غبي, غني أم فقير؟ صالح أم طالح؟
وكم أيامه على الأرض, وكيف هى, وما شكله, وما صفاته الشخصية قبل الميلاد وبعده؟
يضيف ربي نحمان: يأتي كل إنسان وزوجه معه, وماله المكتوب له في الحياة, وأولاده كم عددهم وما نوعهم؟.
نستنتج من ذلك – والكلام للربي نحمان – أن فرصة تغيير المكتوب وتوجيه مسيرة الحياة غير واردة!. ومع ذلك فإن اليهودية كدين مُعلّم تقدم درسًا مهمًا قلّ أن تجد مثيله :
"السلطة بيد الإنسان في أعماله"
أو كما جاء في سفر الأمثال : الإنسان نفسه يحدد مصيره"!
و"كلماتُ الجاهل مهْلَكة له، وأقواله فَخٌّ لنفْسه"
فتشير الحكمة السابقة إلى أن الإنسان المُنعّم بالثروات وحسن الأقدار طيب العيش قد يتباهى بذلك أمام الآخرين وينزلق لسانه بما يثير حسدهم فيعرض نفسه لضربة قاسية تودي بمصيره إلى قدر عبوس!
فيحدد ذلك أعمال الإنسان, ليس فقط أعماله الحالية بل أعماله عبر كل الأجيال! أي أعماله عبر سلسلة عائلته؛ المقصود بذلك أن الإنسان يضار بما فعل الغابرون من أسلافه, وهذا هو تفسير الآية التوراتية :
"الآباء أكلوا الحصرم والأبناء يضرسون" (الحصرم هو العنب الذي لم ينضج بعد), أي أن الآباء ارتكبوا ذنوبًا يعاقب عليها الأبناء!!
لكن توضيح ذلك – كما أسلفت في منشور – هو أن هذا المنطق يكون ساريًا عبر الأجيال إذا استمر الأبناء وواصلوا ارتكاب ذنوب الآباء نفسها – كعبادة الأوثان - ولم يُقلعوا عنها ويسيروا في طريق الهداية والابتعاد عن اقتراف الآثام باتباع نهج الآباء.
وجاء حسم هذه المسألة صريحًا مباشرًا من الرب في سفر حزقيال؛ نقرأ " النفس التي تخطئ هي تموت". فقد حصر العقاب لمرتكب الذنب فقط ولا علاقة لأبنائه من بعده بذلك.
وقد يكون الإنسان صديقًا في جيله أو حقبته, لكن تتبقى له التزامات تجاه أعمال شريرة في سلسلة من سبقوه وهذا هو القدر المقصود! وفي مقابل هذا هناك الاختيار الحرّ. وطبقًا لما يقوم به الإنسان من تغيير في أعماله نظرًا لحالته الخاصة, وسلوكه الشخصي فإن ذلك يؤثر على قدره؛ فيمكنه تغيره بنفسه بحسب ما يصنع كل حين.
من هنا نفهم أن قدّر الإنسان يمكن التحكم فيه بقدر معالجة الأخطاء التي اقترفها في الماضي ومعادلتها في الحاضر بأعمال طيبة.
فالقدر يرتبط بأعمال الإنسان فتغيير الأعمال يؤدي مباشرة إلى تغيير الأقدار! لكن هناك وسائل أخرى يمكن بها تغيير قدر الإنسان. مثال: إذا كان قدر إنسان ما هو الفقر فحتى لو بحث عن عمل فلن يجد, لماذا؟ لأن ذلك مكتوب عليه ولتغيير ذلك يتحتم عليه عمل تغييرات جوهرية. ماهى هذه التغييرات ؟ الإجابة هى أن كل إنسان يعرف جيدًا ما الذي يصلح أحواله ويغير قدره من حالة إلى حالة أخرى! من السيء إلى الحسن.
د. سامي الإمام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق