انتماء ولكن!
في كتابه (صحوة الشيعة) يتناول الباحث ولي نصر طبيعة انتماء أو تدين الشيعة الذين انخرطوا في الجامعات العلمانية للحصول على الشهادات الأكاديمية، وفي الوقت نفسه، التأثيرات المتبادلة بين الانتماءات
فيقول: "إن صعود الدولة الحديثة حمل في طياته تبدّلاً في بُنية المجمع الشيعي وذلك من خلال تفكيك الروابط التي كانت فيما مضى تشدّ الكثرة الكاثرة من الشيعة شدّاً محكماً إلى طائفتهم وزعمائهم. فقد اتجه الشيعة من الطبقتين الوسطى والعالية إلى تحصيل العلم في المدارس العلمانية سواء في الغرب أم داخل الوطن، ضمن معاهد أنشأتها الإرساليات التبشيرية الأوروبية، مثل كلية كينيرد أو كلية فورمان المسيحية في لاهور، وكلية بغداد، وجامعة طهران الأميركية، والجامعة الأميركية في بيروت، ولاحقاً في تلك المعاهد التي تأخذ بالنُظُم التربوية الحديثة في بلادهم. وهكذا صار البعض منهم علمانياً في نمط عيشه أيضاً، أو اعتنق المذهب السُنّي من أجل تسهيل حركة الترقّي غلى الوظائف العُليا، بالطريقة التي قد يتحوَّل بها مواطن معمداني من الجنوب إلى أسقفي في بعض المحافل من المجتمع الأميركي، وآخرون افتُتنوا بالأصولية السُنّية التي كانت تكسب المزيد من الأنصار، فضلاً عن تعزّز مكانتها سياسياً ودينياً على حد سواء. خذوا باكستان في سبعينيات القرن العشرين وأذربيجان في تسعينيات القرن عينه مثلاً، كان التشيع هُناك يُرى على أنه هامد سياسياً ويحفل على نحو مفرط بأمور العبادات والطقوس. وعلى النقيض منه، كانت الكفاحية السُنّية تُميِّل صورة بطولية مشرّفة، إذ كانت تبدو طهرانية، ديناميكية وملتزمة سياسياً. فشعر العديد من الشباب الشيعي الناهض بما لهذه الصورة من جاذبية سحرية، فانقلب سنّياً أو شرع على الأقل يُمارس التشيُّع كما لو كان سنّياً."وفي معرض تناوله موقف القومية العربية الاتهامي والتخويني لأتباع أهل البيت (سلام الله عليهم)، يقول الكاتب ولي نصر: "إذن، تُضمر تحيّزاً متأصلاً ضد الشيعة. والشيعة، وإنْ كانت لفتهم الأم هي العربية، فإنهم ليسوا بحكم هذه الواقعة أعضاء متساوين في الأمة العربية. إن قوة الجاذبية الطائفية لشديدة حقاً، والشيعة إنما يُحسبون من الدُخلاء بمعنى ما ممّن لا يُمكن الركون غليهم؛ فكانوا بذلك (عرب الدرجة الثانية). فمهما تحمّس هؤلاء للانتماء إلى حزب البعث على ضفاف دجلة والفرات، أو أنشدوا المدائح لعبد الناصر على ضفاف النيل، أو حاربوا من أجل القضية الفلسطينية على ضفاف الأردن، فإن دماء ودموع وعَرَق الشيعة في سبيل القضية العربية قد تكون مُرحباً بها أو منتظرة منهم، لكنها لا تعطيهم حقوقاً متساوية حتى ولو على سبيل البدل لقاء مثل تلك التضحيات".
التيارات التكفيرية
لم ينحصر رفض التشيُّع فقط في ذلك الضرب من الفكر المتزمت الذي دعا إليه ابن تيمية، فقد وجد الشيعة عند المصلحين الدينيين السُنّة الآخرين تصلباً مماثلاً في نقضهم للتشيُّع. إن الحركات الإصلاحية التي ظهرت في العالم السنّي ابتداءاً من القرن السابع عشر فصاعداً، وأجدرها بالذكر حركة محمد بن عبد الوهاب (ت 1792)، عرّجت كلها على إدانة ابن تيمية للتشيُّع والنهل منها إنما هذه المرة كجزء من وصفاتهم لإصلاح الإسلام وإحيائه، بل وقلب انحطاطه التدريجي نهوضاً في القوة والوزن كحضارة عالمية. يقول الباحث ولي نصر: "ظهرت الوهابية في شبه الجزيرة العربية خلال القرن الثامن عشر كحركة إصلاحية تُنادي بـ(العودة إلى جذور الإسلام). وكانت قاعدة قوتها في الواحات التي تتخلل الفيافي القاحلة في صحراء نجد، المنطقة السهلية المرتفعة وسط البلاد والتي هي أيضاً موطن آل سعود، الأسرة الحاكمة للملكة العربية السعودية الحالية. كان محمد بن عبد الوهاب طهرانياً متزمتاً، وعكست عقيدته بساطة عيش رجال القبائل الصحراويين في نجد، السكّان الاصليين لما كانت في ذلك الحين منطقة طَرَفية في العالم الإسلامي. وقد سعى إلى تطهير الأإسلام من كل الممارسات الثقافية التي سبق له أن استعارها أو هضمها على مرّ القرون؛ هذه التي أفسدت الإسلام وأوهنته على حد قوله، ولا بد بالتالي من التخلّص منها. وأسوة بابن تيمية، أنكر محمد بن عبد الوهاب أي شيء آخر سوى قراءة القرآن والحديث النبوي قراءة حرفية. كما رفضت الوهابية فكرة وجود أية سلطة وسيطة ما بين الإنسان وربّه معتبرة إيّاها فكرة تتنافى وجوهر الإسلام الأصلي. حتى النبي محمد نفسه كانت تراه الوهابية مجرد رسول من عند الله، وإنساناً كسائر بني البشر، ولا يستحق من ثم أي تقديس مخصوص. في العام 1804، اندفع رجال محمد بن عبد الوهاب فجأة من قلب الصحراء نحو المدينة المقدسة (المدينة)، حيث قدّموا عرضاً من عروض تعصّبهم الشديد بتحطيمهم بلاطة ضريح النبي كي يُوقفوا إخوانهم المسلمين عن (عبادته).
ويستعرض الكتاب مشاهد تاريخية للحروب المتوحشة التي مارستها عصابات الوهابية المدعومة من قبل السلطة السعودية على الأضرحة والمقامات المقدسة لأهل البيت (سلام الله عليهم) والأولياء والعلماء، يقول نصر: "أدان الوهابيون تقديس الأولياء والتردد على مزاراتهم بوصفه عملاً من أعمال الشرك، ورأوا في المسلمين الذين يقومون بمثل هذا العمل قوماً ضالّين. وقبل أن يضعوا عينهم على مسجد الرسول [ في المدينة]، كان الوهابيون قد اجتاحوا كربلاء عام 1802، وانتهكوا حُرمة مقام الإمام الحسين ـ وهو حدث ترك علامة لا تمحى في ذاكرة الشيعة التاريخية. وقد صاحبت الاكتساح الوهابي لشبه الجزيرة العربية أعمال عنفٍ ضد الشيعة. ففي عام 1913، قام "جيش الإخوان" بقيادة الزعيم الوهابي (ولاحقاً الملك الأول للمملكة العربية السعودية) عبد العزيز بن سعود باجتياح منطقة الإحساء الشيعية وحاول فرض المذهب الوهابي بالقوة على سكّانها. وفي العام 1925، عاثت قوات ابن سعود تخريباً في "جنّات البقيع" في المدينة حيث دُفنت ابنة النبي فاطمة والأئمة الثاني والرابع والخامس والسادس للشيعة. ولا يزال الحجّاج الشيعة إلى يومنا هذا ينسلّون خفية إلى حيث كانت "جنات البقيع" للدعاء والابتهال ـ هذا إذا تمكّنوا من تفادي نبابيت شرطة الأخلاق السعودية (المطوِّعين) المرهوبي الجانب. وإثر اجتياحهم الإحساء، دعا الإخوان إلى الجهاد ضد الشيعة، طالبين من ابن سعود إما أن "يهديهم" (إلى مذهب أهل السُنّة) أو يجيز قتلهم. تردد ابن سعود، لكن الإخوان كثيراً ما كانوا يأخذون الأمور بأيديهم؛ ففي ثورة من العنف البالغ، أقدموا في عام 1926 على قطع رؤوس عدد غفير من الشيعة بالسيوف . وإراقة الدماء هذه حملت ابن سعود على كبح جماح الإخوانن خاصةً وأن انتباهه كله كان منصبّاً في ذلك الحين على بناء دولته. إنه لن يسمح بوقوع مذبحة جماعية، لكن الشيعة كانوا قد ذاقوا فعلاً أسوأ ما في الوهابية. ومع تبلور معالم الدولة السعودية في ثلاثينيات القرن العشرين، جرى تهميش الشيعة بصورة ممنهجة، كما تمّ تجريدهم من أي دور لهم في الشأن العام. لقد تسامحت الدولة الوهابية معهم، أجل لكنها لم تقبلهم كما هم؛ فكانوا الأقلية غير المرغوب فيها؛ الأقلية الوثنية".
روابط المنشورات السابقة في الموضوع نفسه:
رابط منشور 1
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=2396115573849533&set=pb.100003533428821.-2207520000..&type=3&size=1032%2C774
رابط منشور 2
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=2397934960334261&set=pb.100003533428821.-2207520000.0.&type=3&theater
رابط المنشور 3
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=2399921470135610&set=pb.100003533428821.-2207520000..&type=3&size=300%2C300

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق