الخميس، 2 يناير 2020

من مقدِّمة "فهم القبالا" (هل هى ثورة على الموروث الديني!)

ظلت حكمة القبالا لزمن طويل مغلقة ومجهولة أمام اليهودي التقليدي, وكان تعليمها محدودًا ومقصورًا على مجموعات حريدية وباحثين أكاديميين فقط, وكلا الفريقين لم يشعرا بضرورة الغوص في أعماقها وبحث موضوعاتها.

لقد أولت اليهودية الأورثوذكسية أهمية كبيرة لدراسة التلمود وسمحت لأولئك الذين ملأوا معينهم من المشنا والفقهاء والذين بلغوا قدرًا من الاستطاعة والتنافس مع أسرار الحكمة العليا بالتعمّق فيها. رأى العالم الأكاديمي في القبالا ميدانًا فسيحًا للبحث, حيث تضم مدونات غامضة تتطلب فكًا لأسرارها, وأشكالا متداخلة وألوانًا مختلطة ورموزًا تحتاج إلى تجميع وتنويع وتمييز بلا حدود في قوالب أدبية.
ولم ير أي فريق من هؤلاء في مصادر القبالا العظيمة أداة حية ملموسة للفكر. كانت هناك تجارب قليلة لتقديم المادة التي تم جمعها خلال البحث أمام الجمهور العريض بصورة واضحة لغالبية اليهود غير الخبيرين في هذا المجال المعرفي. وهو اليهودي نفسه الذي سيحاول الكشف عن مزيد من شكل القبالا ومضمونها سيواجه صعوبات جمّة. فمن يحاول الاقتراب من دراسات القبالا عبر دوائر دينية سيواجه صعوبات بسبب الجهل الشديد السائد عن هذا المجال, بالإضافة إلى عدم تمتعه بمعرفة القواعد الأساسية المطلوبة للتسلح بها.
إن هجر القبالا الناتج عن عدم رؤية أهميتها كما ينبغي؛ كوسيلة لفهم التوراة تتجلّى اليوم في انحطاط يهودية العصر الراهن وانكماشها في مجالات اجتماعية سلبية, كان من نتائجها أننا نرى كثيرًا من شباب اليهود يلجأون إلى نظريات غيبية من الشرق. 
إن هدف هذا الكتاب ليس فقط منح رؤية واسعة عن عالم الغيبيات اليهودي ولكن أيضًا تقديم فكرة عن كيفية التعامل مع مشكلات العصر عن طريق القبالا. أما الهدف الرئيسي فهو إثبات أن الوقت قد حان للرجوع إلى فهم الوجود وقوانينه بالطريقة التي تيسرها لنا القبالا.
ولا شك أن الاهتمام المتجدد بأهمية الغيبيات والغوامض والأسرار لدى الشباب منحت أهمية كبيرة لإحياء القبالا كقوّة كبيرة في الدراسات اليهودية. إن ظهور القبالا كمنظومة تمتلك وسائل السيطرة على جميع المشكلات المرتبطة بالوجود في القرن العشرين لهو أمر مفاجيء لكثيرين خاصة بسبب عدم نجاح المؤسسات التقليدية في حلّ هذه المشكلات. لقد عُدَّت اليهودية في نظر الأجيال الشابة حتى وقت قريب جدًا كمنظومة عفى عليها الزمن وجامدة قوامها تشريعات وقوانين جبريّة ومحدودة كانت أهدافها تمكين أمة من العبيد من الثبات خلال سنين التيه الأربعين في الصحراء. 
يرى الجيل الشاب باستثناء تغيرات قليلة جدًا قام بها الحكماء أن هذه المنظومة تحجَّرت عبر السنين إلى أن تحولت إلى منظومة تضم ملامح تاريخية وآثارية, وهى غير مهيئة لتقديم إجابات للإنسان الذي يواجه مشكلات جوهرية بصفته يهوديًا يعيش في مجتمع عصري. وعلى الأخص اليوم فإن تجدد فكر القبالا يعني إعادة الحياة لجميع عناصر الوجود. ومن هنا نعرف أن لا وجود للجبرية بجميع أشكالها. ومن المباديء الأساسية أن الخالق القادر على كل شيء الذي خلق كل إنسان منّا لم يجبرنا على فعل الخير!. ولذلك يبرز السؤال: كيف يمكن أن نُضمِّن الصورة أشكالا من الخوف والترهيب لكي نجبر الغير على أمر ما. ولسنا مجبرين بحسب القبالا لأداء أية وصية بدافع التقاليد أو "كذكرى", بل على العكس فإننا ملزمون بمعرفة الأسباب وراء كل فعل. وأن السبب الوحيد لآداء الوصايا يمكن أن يوجد حينما تساعد القبالا عن طريق الفهم الذي تقدمه وبالطريقة التي تقدمها التوراة يمكن بناء البعد الغيبي للزمن الذي فقد في الماضي. الزمن الذي تواصل طاقاته الغيبية دورها في الوجود. إن هذه الطاقة نفسها التي يأتي شرحها بالتفصيل عن طريق القبالا متاحة للاستخدام اليومي بشرط أن نعرف كيف نستدعيها ونتقن كيفية استخدامها.
اوضح الراب شمعون بار يوحاي مؤلف الـ "زوهار" (وهو العمل الكلاسيكي الذي دوِّن عن الفهم الخفي أو الغيبي للتوراة) أوضح بصورة دقيقة هذه النقطة. فهو يدقق في وجهة النظر التي تعرض الضرورة الدينية كسبب كافي للنصوص الدينية ولتنفيذ الوصايا بقوله:
(تعلمنا ان كل من يريد إثارة أمورًا علويّة, سواء بالفعل أم بالكلام, فإن هذا الفعل أو ذاك العمل إذا لم يتم على وجهه الأكمل كما ينبغي, فإنه لن يثمر شيئًا. فجميع البشر يتوجهون إلى المعبد من أجل طلب شيء من السماء, لكن قلة منهم من يعرف كيف يطلب!
إن السبب في أن الدين لا يبدو كقوة حيّة ومحركة في مجتمعنا تكمن في عدم قدرتنا على مواجهة الضرورات الروحانية التي تتنامى لدى الأفراد في هذا المجتمع.
يتبع
د. سامي الإمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق