تتعرض قصة ميلاد موسى, عليه السلام, وتربيته في قصر فرعون بحسب نصّ التوراة إلى نقد شديد, لما فيها من تناقضات وغموض يحتاجان إلى كشف سرهما في هذه الشخصيّة التي لعبت دورًا محوريًا في حياة اليهود.
ويتبدى أشدّ الغموض في حياة موسى عليه السلام, في تفاصيل الحقبة التي عاشها منذ طفولته إلى أن بلغ ريعان الشباب, حيث لم تذكر التوراة كيف عاش وهل كان يلتقي بجماعته؛ بني إسرائيل؟ وماذا كان يعبد؟ وغير ذلك ..
كل ذلك حدا بالمفسرين والباحثين إلى محاولة البحث في المصادر القديمة عن معلومات جديدة تسبر غور هذه الجوانب المهمة في مسيرة الرجل والنبي والقائد.
موسى - كاهن مصري وزعيم ثورة للمجذومين والمصروعين !!
****************************************
الحكاية . . .
قرر الملك "أمنوفيس" ذات يوم أن يرى بأم عينية الآلهة. فاستدعى أحد حكماء المملكة وسأله كيف يستطيع أن يحقق مراده؟ أجابه الحكيم: أنه يستطيع أن يرى الآلهة إذا طهَّر مصر من المصابين بالبرص والجذام, ومن بعض النجسين الآخرين! وعلى الفور اتخذ الملك تدابيره : فجمع كل أصحاب العاهات وحاملي المرض في مصر, وطردهم إلى منطقة المحاجر التي كانت تقع, آنذاك, شرقي نهر النيل؛ حتى يعملوا هناك بالسخرة وينعزلوا عن بقية المصريين.
وحينما شاهد الحكيم صنيع الملك, القاسي الذي نتج عن مشورته التي أبداها له, خاف من غضب الآلهة ومن النتائج المدمرة التي ستعقب هذا العمل, فقرر الانتحار!
اشتغل المصابون بالجذام أيامًا طويلة في المحاجر, وبعد جهد جهيد استجاب الملك "أمنوفيس" لتوسلاتهم وخصص لهم بيوتًا في المدينة القاصية "أواريس". وبمجرد مجيئهم إلى تلك المدينة نصَّبوا عليهم كاهنًا مصريًا من هليوبولس, اسمه "أوسرسيف", وأقسموا أن يطيعوه في كل شيء.
كلّف "اوسرسيف" المرضى بالجذام والصرع بمجموعة من الوصايا, جميعها تتعارض مع التشريعات المصرية. من بينها تحريم أكل الحيوانات التي كانت مقدّسة لدى المصريين, بل أمرهم بقتلها إذا هم صادفوها في أي مكان.
وفي مرحلة ما بعد ذلك أرسل رسلا إلى الهكسوس- وهم قبيلة من الرعاة الذين طُردوا من مصر على يد الفراعنة وعاشوا في تلك الحقبة في مدينة تسمى أورشليم – ودعاهم للانضمام إلى المجذومين وإلحاق الهزيمة بفرعون. و بعد أن نصَّب نفسه ملكًا على الرعاة والمصابين بالجذام والبرص, غير "أوسرسيف" اسمه إلى "موسى"!.
هذه القصة تبدو غريبة منكرة بالنسبة لمن لم يسمع منذ طفولته غير قصة العبودية. أما من كتبها فهو الكاهن المصري "مانيتون"!, الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد, وبناها فيما يبدو على مدوّنات قديمة بالخط الهيروغليفي عُثر عليها محفوظة في معابد المصريين القدماء.
ويمكننا بدرجة كبيرة أن نرى في قصة المجذومين المستعبدين وزعيمهم "أوسرسيف" الطبعة المصرية لقصة الخروج من مصر.
ويستطرد "مانيتون" في قصته فيقول: إن الجيش المشترك من المجذومين والرعاة من أورشليم, استولى على مملكة النيل, وحطّم تماثيل الآلهة وعامل سكان المملكة بقسوة شديدة. ولم يغادروا المملكة إلا بعد أن جرّد فرعون جيشًا ضخمًا وطردهم إلى جهة الشمال.
فهل كان موسى كاهنًا مصريًا؟ تزعَّم تمردًا أو ثورة ضد بلده؛ مصر؟
هذه النظرية وجدت طريقها إلى العقول مرات عدّة لدى مؤلفين كثر من الحقبة اليونانية وحتى القرن العشرين. ومن بين ما يؤيدها تكرار ظهور الاسم "موسى" في المصادر المصرية القديمة, والذي كان شائعًا بين طبقة النخبة من المصريين. وللأسف فإن كتاب مانيتون لم يحفظ, وقصة (موسى – أوسرسيف) وصلت إلينا فقط بفضل المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلابيوس, الذي اقتبسها في كتابه "ضد أفيون" (أفيون عاش ما بين 25 ق.م إلى 50 ميلادي, وكان يقلِّب السكندريين على كراهية اليهود )!
يختلف الباحثون المعاصرون في الرأي حول هل نصّ "مانيتون" عن نشأة جماعة إسرائيل هو بالفعل تحريف للقصة التوراتية عن خروج مصر؟, أم أنها تعتمد على خلفيات تاريخية معينة حفظت بمصر ووصلت إليهم؛ فيزعم باحث المصريات "يان أسمان" في كتابه "موسى المصري" أن قصة مانيتون ترجع إلى تراث تقليدي متبقي من حدثين جللين في التاريخ المصري القديم :
الأول: ثورة أخناتون الدينية التي حاول فيها تحريم عبادة الأوثان وتأسيس عقيدة توحيدية يكون إله الشمس "أتون" هو مركزها.
والثاني: احتلال مصر من قبل الرعاة الساميين/الهكسوس. ويزعم أن قصة الخروج من مصر كما تبدو في التوراة تتضمن الفكرة نفسها؛ سيطرة البدو الرحالة وطردهم, التي ميزت سمة الحياة في كنعان, ووجدت تجسيدًا لها في التوراة.
إن قصة مانيتون سواءً أكانت حقيقة أم كذبًا, عن قصة خروج مصر هى إحدى أوائل النظريات والأساطير التي لا تعدّ ولا تُحصى حول قصة التوراة على مرّ الأجيال. وجميعها تحاول كشف غموض القصة, خاصة شخصيّة موسى نفسه!, وتقديم مبررات جديدة للحدث.
(يتبع)
د. سامي الإمام
أستاذ الديانة اليهودية.
ويتبدى أشدّ الغموض في حياة موسى عليه السلام, في تفاصيل الحقبة التي عاشها منذ طفولته إلى أن بلغ ريعان الشباب, حيث لم تذكر التوراة كيف عاش وهل كان يلتقي بجماعته؛ بني إسرائيل؟ وماذا كان يعبد؟ وغير ذلك ..
كل ذلك حدا بالمفسرين والباحثين إلى محاولة البحث في المصادر القديمة عن معلومات جديدة تسبر غور هذه الجوانب المهمة في مسيرة الرجل والنبي والقائد.
موسى - كاهن مصري وزعيم ثورة للمجذومين والمصروعين !!
****************************************
الحكاية . . .
قرر الملك "أمنوفيس" ذات يوم أن يرى بأم عينية الآلهة. فاستدعى أحد حكماء المملكة وسأله كيف يستطيع أن يحقق مراده؟ أجابه الحكيم: أنه يستطيع أن يرى الآلهة إذا طهَّر مصر من المصابين بالبرص والجذام, ومن بعض النجسين الآخرين! وعلى الفور اتخذ الملك تدابيره : فجمع كل أصحاب العاهات وحاملي المرض في مصر, وطردهم إلى منطقة المحاجر التي كانت تقع, آنذاك, شرقي نهر النيل؛ حتى يعملوا هناك بالسخرة وينعزلوا عن بقية المصريين.
وحينما شاهد الحكيم صنيع الملك, القاسي الذي نتج عن مشورته التي أبداها له, خاف من غضب الآلهة ومن النتائج المدمرة التي ستعقب هذا العمل, فقرر الانتحار!
اشتغل المصابون بالجذام أيامًا طويلة في المحاجر, وبعد جهد جهيد استجاب الملك "أمنوفيس" لتوسلاتهم وخصص لهم بيوتًا في المدينة القاصية "أواريس". وبمجرد مجيئهم إلى تلك المدينة نصَّبوا عليهم كاهنًا مصريًا من هليوبولس, اسمه "أوسرسيف", وأقسموا أن يطيعوه في كل شيء.
كلّف "اوسرسيف" المرضى بالجذام والصرع بمجموعة من الوصايا, جميعها تتعارض مع التشريعات المصرية. من بينها تحريم أكل الحيوانات التي كانت مقدّسة لدى المصريين, بل أمرهم بقتلها إذا هم صادفوها في أي مكان.
وفي مرحلة ما بعد ذلك أرسل رسلا إلى الهكسوس- وهم قبيلة من الرعاة الذين طُردوا من مصر على يد الفراعنة وعاشوا في تلك الحقبة في مدينة تسمى أورشليم – ودعاهم للانضمام إلى المجذومين وإلحاق الهزيمة بفرعون. و بعد أن نصَّب نفسه ملكًا على الرعاة والمصابين بالجذام والبرص, غير "أوسرسيف" اسمه إلى "موسى"!.
هذه القصة تبدو غريبة منكرة بالنسبة لمن لم يسمع منذ طفولته غير قصة العبودية. أما من كتبها فهو الكاهن المصري "مانيتون"!, الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد, وبناها فيما يبدو على مدوّنات قديمة بالخط الهيروغليفي عُثر عليها محفوظة في معابد المصريين القدماء.
ويمكننا بدرجة كبيرة أن نرى في قصة المجذومين المستعبدين وزعيمهم "أوسرسيف" الطبعة المصرية لقصة الخروج من مصر.
ويستطرد "مانيتون" في قصته فيقول: إن الجيش المشترك من المجذومين والرعاة من أورشليم, استولى على مملكة النيل, وحطّم تماثيل الآلهة وعامل سكان المملكة بقسوة شديدة. ولم يغادروا المملكة إلا بعد أن جرّد فرعون جيشًا ضخمًا وطردهم إلى جهة الشمال.
فهل كان موسى كاهنًا مصريًا؟ تزعَّم تمردًا أو ثورة ضد بلده؛ مصر؟
هذه النظرية وجدت طريقها إلى العقول مرات عدّة لدى مؤلفين كثر من الحقبة اليونانية وحتى القرن العشرين. ومن بين ما يؤيدها تكرار ظهور الاسم "موسى" في المصادر المصرية القديمة, والذي كان شائعًا بين طبقة النخبة من المصريين. وللأسف فإن كتاب مانيتون لم يحفظ, وقصة (موسى – أوسرسيف) وصلت إلينا فقط بفضل المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلابيوس, الذي اقتبسها في كتابه "ضد أفيون" (أفيون عاش ما بين 25 ق.م إلى 50 ميلادي, وكان يقلِّب السكندريين على كراهية اليهود )!
يختلف الباحثون المعاصرون في الرأي حول هل نصّ "مانيتون" عن نشأة جماعة إسرائيل هو بالفعل تحريف للقصة التوراتية عن خروج مصر؟, أم أنها تعتمد على خلفيات تاريخية معينة حفظت بمصر ووصلت إليهم؛ فيزعم باحث المصريات "يان أسمان" في كتابه "موسى المصري" أن قصة مانيتون ترجع إلى تراث تقليدي متبقي من حدثين جللين في التاريخ المصري القديم :
الأول: ثورة أخناتون الدينية التي حاول فيها تحريم عبادة الأوثان وتأسيس عقيدة توحيدية يكون إله الشمس "أتون" هو مركزها.
والثاني: احتلال مصر من قبل الرعاة الساميين/الهكسوس. ويزعم أن قصة الخروج من مصر كما تبدو في التوراة تتضمن الفكرة نفسها؛ سيطرة البدو الرحالة وطردهم, التي ميزت سمة الحياة في كنعان, ووجدت تجسيدًا لها في التوراة.
إن قصة مانيتون سواءً أكانت حقيقة أم كذبًا, عن قصة خروج مصر هى إحدى أوائل النظريات والأساطير التي لا تعدّ ولا تُحصى حول قصة التوراة على مرّ الأجيال. وجميعها تحاول كشف غموض القصة, خاصة شخصيّة موسى نفسه!, وتقديم مبررات جديدة للحدث.
(يتبع)
د. سامي الإمام
أستاذ الديانة اليهودية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق