بداية نودّ أن نذكِّر بأن ترجمة القرآن الكريم إلى أية لغة غير العربية هى شيء لا نقول شبه مستحيل بل هو المستحيل بعينه؛ ذلك لأن النص القرآني له خصوصية لغوية فريدة, يعجز البشر عن محاكاتها وهى ما سموه بـ (علوم القرآن) كالمحكم والمتشابه والمجمل والمفصل، والعام والخاص، ومبهمات القرآن ولغات القرآن، ومشكل وإعراب, وغير ذلك.
ويؤكد ابن قتيبة على ذلك فيقول:
إذا ترجم القرآن إلى لغة أخرى انتفت عنه صفة الإعجاز البلاغي؛ لأن اللغة العربية تمتاز عن غيرها من لغات العالم الأخرى باتساع المجاز, والتفنن في التعبير.
ويقول في تأويل مشكل القرآن:
"وللعرب المجازات في الكلام ومعناها طرق القول ومآخذه, ففيها الاستعارة والتمثيل, والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح.... وبكل هذه المذاهب نزل القرآن".
إن تعدد التفاسير وتنوعها باعتبار المناهج المتبعة فيها من تفسير بالمأثور, أو بالرأي, أو بالإشارة, لا يخرجها جميعاً عن كونها شرحًا وبيانًا للنص القرآني يأتي على هامشه ولا يغير أو يبدل فيه من حيث البنية؛ في حين يكون النص في كثير من الترجمات عرضة للتحريف والتشويه والخطأ الذي يصل في بعض الأحيان إلى قلب المعنى رأساً على عقب كما سنبين لاحقاً .
وبعد :
نؤكد على أن المترجمين اليهود لم يستخدموا مصطلح "ترجمة معاني القرآن الكريم" بل استخدموا تعبير "ترجمة القرآن الكريم", ذلك لأنه كتاب لا تشكل قداسته وخصوصيته ومكانته أي قيمة عندهم فهم بنظرون إلى محتواه على أنها مجرد "نصوص أدبية" لا غير.
فإذا استخدمنا عبارة ترجمة معاني القرآن الكريم فلا ينطبق هذا على كلام اليهود ووصفهم بل هو كلامنا نحن احترامًا وتقديرًا لمكانة قرآننا الكريم, وإقرارًا بحقيقة استحالة ترجمة النص نفسه.
وفيما يلي سنتتيع أهم ملامح مسيرة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة العبرية:
• عرف اليهود الذي عاشوا في العصور الوسطى في كنف الإمبراطورية الإسلامية عرفوا جيدًا القرآن بصيغته الأصلية ولغته العربية, ومن المعروف أن نسخًا من القرآن الكريم كانت مدوّنة بحروف عبرية على أيدي يهود, على غرار أسلوب الكتابة العربية اليهودية.
وقد كانت معرفة القرآن غاية في الأهمية بالنسبة للإنتاج الديني والفلسفي لليهود في العصر الوسيط.
• ترجمت معاني القرآن الكريم, في القرنين السابع عشر والثامن عشر, إلى العبرية في أوروبا, على أيدي يهود, وأول محاولة كانت لـ "يعقوڤ بن إسرائيل هاليڤي", في سنة 1636, لكن تلك الترجمة لم تكن عن نسخة باللغة العربية, بل كانت عن نسخ مترجمة إلى الإيطالية والهولندية, وهذا هو ما أدى إلى عدم خروج هذه الترجمة للنور وهى لا تزال إلى يومنا هذا محفوظة هناك في ما يسمى دار "ميجل".
• قام "تسڤي هيرمان ريكندورف" في سنة 1857 بترجمة معاني القرآن إلى العبرية من النسخة العربية. واستخدم في ترجمته اللغة التوراتية كما كان متبعًا في عصره, لذلك كانت قراءته صعبة بالنسبة للبعض. وقد جعل ريكندورف لترجمته تفاسير, بعضها كان موضوعيًا وبعضها الآخر تضمن نقدًا وسخرية من الدين الإسلامي!.
• ترجمت معاني القرآن الكريم مرات عدة في القرن العشرين, إلى اللغة العبرية, وكانت تقريبًا كلها بغرض البحث, أو الثقافة العامة, وليس لغرض الدراسة الدينية.
في سنة 1936 أتم الباحث في علوم الإسلام "يوسف يوئيل ريڤلين" ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة العبرية, وتعدّ هذه الترجمة حاليًا نسخة عبرية كلاسيكية لمعاني القرآن الكريم, ومعظم المقتبسين من القرآن يفضلون الأخذ من هذه الترجمة. وتمت هذه الترجمة أيضًا بلغة توراتية مع بعض الاستعمالات من لغة الحكماء (المشنا), مع الحفاظ على سمات أسلوبية معينة للغة العبرية الأدبية.
وقام "حاييم نحمان بياليق" وهو شاعر وأديب عبري, أيضًا, بالشروع في ترجمة معاني القرآن الكريم لكنه توفي قبيل أصدارها. وهناك آراء متضاربة عن اشتراك بياليق في ترجمة ريڤلين السابقة الذكر؛ فقد كتب أحد المهتمين بهذا الشأن يقول: إن بياليق الذي تدخل كثيرًا في ترجمة ريڤلين لمعاني القرآن الكريم لكي يضفي عليها الطابع المجازي, وبذلك زادت الصعوبات حتى في وجه القاريء الذكي". ويقول "رأوبين ريڤلين" عن أبيه : إن بياليق الشاعر أحترم العبرية الحديثة لكن أبي رفض بشدة مجموعة ملاحظات كان بياليق أرسلها إليه بخصوص ترجمة القرآن".
وتميزت ترجمة ريڤلين بكونها سهلة القراءة عن ترجمة "ريكندورف", لكن عبريته تعد اليوم عبرية كلاسيكية.
• في عام 1971 قام "أهارون بن شيمش", بترجمة معاني القرآن من النسخة العربية, بشكل مختلف؛ فقد ضمن الترجمة تعليقات على بعض التعبيرات والآيات. واتسمت ترجمة بن شيمش بشكل عام بمقارنات عدة لنصوص يهودية بالعبرية والآرامية, وضمنها تعليقات هامشية متعددة من التوراة, والمِشْنَا, والتلمود, وأساطير الحكماء.
واستخدم بن شيمش اللغة العبرية الحديثة التي لا تحافظ على/أو توائم أسلوب وعلم النحو والصرف وتراكيب العربية الأصيلة. لذلك تعدّ ترجمة بن شيمش سهلة القراءة خاصة بالنسبة للمتحدثين بالعبرية الذين لا يجيدون اللغة العربية الأدبية, وليسوا على علم بالإسلام. وعلى الرغم من ذلك يرى باحثون مسلمون كثر أن التعليقات التي صاحبت ترجمة بن شيمش تتستر على/ أو تخفي وراءها خلافات خاصة بآيات معينة, وأن الترجمة غير دقيقة بالقدر الكافي.
• أما آخر ترجمات لمعاني القرآن الكريم فهي التي قام بها الباحث في شئون الإسلام "أوري روبين", التي تمت عن نسخة عربية وصدرت عام 2005. وربين هو باحث مشهور في تاريخ النصوص القرآنية, وتاريخ حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد حظيت ترجمة روبين هذه بإعجاب أقرانه؛ يوسيف سادان (الباحث في الأدب العربي القديم), وساسون سوميخ (الباحث في الأدب العربي الحديث).
وقد حرص روبين على إخراج ترجمة سهلة القراءة ولا تتطلب معرفة مسبقة باللغة العربية الأدبية, ولا تهتم بلغة المجاز الزائد, ومع ذلك ينقل النص العربي للآيات القرآنية بدقة بقدر الإمكان.
ويعدّ أوري روبين من المتبنين لوجهة النظر القائلة بأنه لا يمكن من خلال القرآن والحديث التعرف على تاريخ بداية الإسلام, بل يمكن ذلك فقط من الاتجاهات الدينية والمجتمعية التي كانت سائدة وقت تدوين هذا التراث (القرآن والحديث), وفي كثير من الأحيان يصعب استنتاج شيء ما من النصّ دون تفحّص التفاسير التي توضح كيف فهم المؤمنون ذلك النص.
ويقول روبين عن ترجمتهلمعاني القرآن الكريم:
"إن ترجمتي لا تسعى لأن تكون "مطابقة للأصل", أي: أن تؤدي المعاني "الأصلية" للقرآن. إنما كان كل ما أهدف إليه هو التعبير عن صورة المعاني القرآنية لدى المؤمنين" .
بينما يعترض باحثون آخرون متخصصون في الثقافة والتاريخ الإسلاميين بشدة على رأي روبين قائلين: يمكن من خلال مقارنة التراث الإسلامي والبحث الفيلولوجي (اللغوي) المدقق للآيات القرآنية والأحاديث, الوصول إلى معالم بداية الإسلام.
(يتبع)
د. سامي الإمام
أستاذ ورئيس قسم اللغة العبرية بكلية اللغات والترجمة/ بجامعة الأزهر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق