الخميس، 26 مارس 2015

محاكم التفتيش اليهودية (1) ‫#‏האינקוויזציה_היהודית‬

كانت إسبانيا – منذ القرن الثامن – سياقًا يضم ثلاثة شعوب وثلاثة معتقدات, وكان لليهودي قيمته وجدارته مثل المسيحي رغم كل المحاذير كما ان الملوك أنفسهم منحوا بعض اليهود اللقب الاجتماعي "السيد" الذي كان آنذاك علامة على أعلى الدرجات الاجتماعية بين النبلاء. وأدّى اختلاط الدم بين اليهود والمسيحيين وتشابك الظروف إلى خلق نمط داخلي من الحياة وشعر اليهودي من ذوي العرق الطيب بأنه نبيل واحيانًا نجده يحارب في صفوف جيش الملك ضد المشارقة (العرب), ويقيم دورًا عظيمة للعبادة مثل معبد (ترانستو) في طليطلة. ادى ذلك إلى ظهور صور أخرى من التفضيل لدى اليهود حيث نقرأ أن يهود قشتالة من سلالة أفضل من اليهود غير الإسبان! وقد كان الإحساس بالسيادة والانتساب للسلالات الرفيعة أمرًا مشتركًا بين اليهود المسيحيين, بل كان مرافقًا لليهوح حتى عند الطرد. ولا يزال اليهود من ذوي الأصول الاسبانية يحتفظون حتى اليوم بمشاعر التفوق وهذا ما لا يفهم إلا إذا أسندناه إلى الجو الذي ساد قبل عام 1492م.
لقد اختلط المسيحيون باليهود حتى القرن الخامس ولم يروا غضاضة في اختلاط السلالات وهكذا رأينا بعض المسيحيين, بمن فيهم أناس من الأسرة الملكية يعشقون يهوديات وأن "فرناندو" الكاثوليكي به بعض الدماء اليهودية, ونرى أن الوضع كان طبيعيًا وما يبرهن عليه هو الصمت إزاء هذا الاختلاط الذي أخذ الناس يخشون منه ويهاجمونه اعتبارًا من القرن الخامس عشر, ومن هنا نجد الكثير من معتنقي الديانة المسيحية الجدد أخذوا يتسمون بالشراسة ويخرج من صفوفهم أعتى أعداء اليهود وأعداؤهم أنفسهم, ويمكن العثور على هؤلاء في كل مكان وأحيانًا ما نجدهم يحتلون مناصب رفيعة! والغريب في الأمر أن يكون أول رئيس لمحاكم التفتيش, "توماس دي توركيمادا", مسيحي من أصل يهودي!
وإذا كانت طهارة الدماء صورة طبق الأصل لمسيحية متهوّدة على غرار الانغلاق السلالي لليهود, فالوضع كذلك بالنسبة لإدراج الحياة بكاملها في الإطار الدينيوالرفض العنيف لأي دراسة أو نظرية قد تؤذي تفوق المفاهيم العقدية وأسبقيتها, ولكل هذا نجد سوابق واضحة بين اليهود؛ فقد أعربت طائفة برشلونة عن معارضتها – عام 1304م – عن قيام من هم أقل من سن 25 سنة بدراسة المؤلفات اليوانية في ميدان العلوم الطبيعية والميتافيزيقة وذلك للحؤول دون تأثير هذه العلوم في إغواء قلوبهم بعيدًا عن الديانة اليهودية وطقوسها الصارمة. لقد كان لعقيدة "شعب الله المختار" أكبر الأثر في ظهور محاكم التفتيش في إسباني, وهو ما أدّى كذلك إلى ضيق اليهودي كان قد تجاوزه في عصور الإسلام هناك, لكن هذا الضيق يتسق مع الشخصية اليهودية المتعالية.
ولا يمكننا أن نفهم بالضبط الوضع الذي كانت عليه محاكم التفتيش الإسبانية إذا ما اقتصرنا على القول بأنها أنشئت لحماية نقاء العقيدة المسيحية في ممالكها, فلم يحدث أي شيء بالنسبة للأوضاع اللاهوتية؛ فلم يحاول أحد الدعوة إلى دين جديد أو القضاء على دعائم الدين القائم, ومن تم إحراقهم في أوربا إنما عبّروا عن أفكارهم المعادية لما عليه روما في ذلك الوقت! أما من شُنقوا وبعد ذلك أحرقوا على يد محاكم التفتيش الإسبانية فلم تصدر عنهم أي عقيدة أو نظرية وماتوا ضحية سلوكيات غير مفهومة من قبل أناس لا يعنيهم سوى القيل والقال, وقد ملأهم غضب تلمودي! والغريب في محاكم التفتيش هو بشاعة ما تتخذه من اجراءات وغموض ما يدور, وأن يكون أساس أحكامهم الجمع بين نهش أحشاء الضحايا وبين الغيرة على نقاء العقيدة!
فإسبانيا لم تعرف الصراعات الدينية, وكانت تتسم دومًا بالمعرفة اللاهوتية إلا أنها كانت بعيدة عن الفكر الارثوذوكسي (المتشدد), فالمعتقدات الإسبانية لم تكن إلا ما خلفته القرون في الأنفس والأرواح بالطابع المسيحي الإسلامي اليهودي.
ولم تكن وراء محاكم التفتيش اي خطة عقدية من أي نوع بل كانت محصلة انفجار الغضب الشعبي الذي ساعد عليه روح غير صافية كان عليها كثير من المسيحيين ذوي الأصول اليهودية.
يجب أن نبحث – إذن – عن سوابق متعلقة بمحاكم التفتيش في حارات اليهود, ويرى أحد كبار اليهود أن هؤلاء الذين وشوا بيهود (قتالونيا), في نهاية القرن الرابع عشر, لم يكونوا المسيحيين عامتهم وإنما هؤلاء الذين تنصّروا والراغبون في إظهار غيرتهم أو تصفية حسابات قديمة.
وأكثر سكان الحارات اليهودية إيذاء كان (الواشي/الوشاة), وهى شخصيات كارثية كانت عنصرًا رئيسيًا في محاكم التفتيش المسيحية. لقد كانوا منتشرين لدرجة أن لفظ الواشي (malsin) أصبح ضمن مفردات اللغة الإسبانية, بمعناها في العربية, ومعها مشتقاتها مثل الفعل (malsinas). فكان الواشي من اليهود هو الذي يبلغ عن أهل دينه لدى السلطات المسيحية فلا تأخذها بالمتهم رحمة بنية انتزاع أكبر قدر من المال وهذا هو ما يفسِّر حرص القوانين على طهارة العقيدة الموسوية وتطبيق مبادئها.
وكان للواشي عائد مادي جزاء له على جهده أو (متعة الانتقام), فقد كانت السلطات اليهودية تطارده بلا هوادة في حين يحاول الملك الإفادة من الواشي ومن الضحية ذلك أن سمات الواشي والضحية أنهما كانا فريسة لذيذة الطعم "ففي مؤتمر البيع اليهودية الذي عقد في عام 1354 تم طرح قضايا الوشاية والأقلام السامة التي أصبحت مشكلة قومية (يهودية, آنئذ).
ومن المنطقي – بناء على ما سبق - أن نظن بأن الإجراءات التي طبقتها محاكم التفتيش الإسبانية هى صورة من تلك التي استخدمتها المعابد اليهودية وان نقل تلك التركيبة إلى المسيحيين كان عن طريق العديد من اليهود الذين أصبح عدد منهم – خلال القرن الخامس عشر – يشغلون درجة الأسقفية والرهبنة كما أن البعض كان عضوًا في المجلس الأعلى للتفتيش, وكتب بعضهم كتبًا غير إنسانية ضد بني جلدتهم!

عمل مهندسون وفنانون مسلمون في تشييد أماكن للعبادة في الاندلس لغير المسلمين على النمط الاسلامي العربي وبرعوا في زخرفتها، يتجلى ذلك الفن المعماري والزخرفة لاثنين من المعابد اليهودية بطليطلة والتي حولت فيما بعد إلى كنائس وبقيت محتفظة بهندستها العربية الإسلامية، وهما: معبد ''سانتا دي ماريا بلانكا'' ومعبد الترنستو/ او الترانزيتو. والثاني الذي تحتفظ به طليطلة والمعروف باسم الترانزيتو شيد بين عامي '' 1355 و''1357م على يد "صمويل هاليفي" جابي الضرائب للملك بدرو الأول، وذلك كنوع من المكافأة ليهود طليطلة على وقوفهم إلى جانب الملك القشتالي .
 (يتبع)
د. سامي الإمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق