الخميس، 10 سبتمبر 2015

متن التلمود (المِشْنَا)

ستستغرق الكتابة عن التلمود منشورات عدّة, غير متتالية, لكنها محل الاهتمام, وهى مادة علمية أقدمها للباحثين والدارسين والطلاب, وستكون طويلة نسبيًا لكنها مركّزة ومفيدة في مجالها إن شاء الله.
"المشنا" (משנה)، اسم عبري, من الفعل "شانا" بمعنى "كرّر" أو "علّم", لم تكن نتاج يراع عالم واحد أو عصر واحد؛ فلقد ظلت لأمد طويل من الدهر تنمو وتتراكم، فبداياتها تعود إلى حقبة ما قبل خراب الهيكل الثاني (سنة 70 ميلادي على يد تيتوس الروماني), وكان أقرب المسؤولين عن جمع المشنا هم "التَنّائيم" (תנאים)، وهو لفظ مشتق من الفعل العبري "تانا" الذي يحمل دلالات الفعل "شانا" نفسها.

لقد بلغ عدد التَنّائيم في الفترة ما بين عامي 70 – 200م, حقبة جمع مادتها المرويَّة, مائة وعشرين تَنّاءً، يمكننا إدراجهم في أجيال أربعة, سنتناولهم مع التركيز على أعظم شخصية في كل جيل وأبرز صفاته التي ميزته, على النحو التالي:
الجيل الأول: 70 – 100م وعلى رأسه (يوحنان بن زكّاي) - والجيل الثاني: 100- 130م. وعلى رأسه (عقيبا) - والجيل الثالث: 130 – 160م. وعلى رأسه (مئير), والجيل الرابع: 160 – 200 م. وعلى رأسه (يهودا هَنَّاسي/الرئيس).
هؤلاء التناؤون كانوا يملكون ما عساه أن كان أعظم الأصول التي استحوذت على أدب ما – من وجهة النظر اليهودية - حتى مطلع القرن الثامن عشر. ورأوا أن الأدب والحياة يشتركان في جوانب عدة؛ لقد قيل عن (يوحنان بن زكاي) إنه لم يكن يخطو خطوة واحدة دون التفكير في الرب, وتعلّم التوراة؛ الشريعة وكلمة الرب الموثوقة، وتفسيراتها النبوية والربانية، هي الفريضة السامية للإنسان. "إذا ما تعلمت قدرًا كبيرًا من التوراة، لا تعتقد مزية لنفسك، فما لأجل هذا خُلقت"؛ لقد خُلق الإنسان ليتعلم، ولهذا كان الأدب هو غاية الحياة. ولقد رأينا أي نوع من الأدب ذلك المرام. ذكر يوحنان ذات مرة لخمسة من أتباعه المفضلين:
"اذهب فانظر أي الدروب الصالحة يجب على المرء أن يسلكه"!
فتلقى ردودًا متباينة, لكنه استحسن هذا الجواب: "القلب السليم هو السبيل" فالأدب هو الحياة إن كان أدبًا وجدانيًا- وتعتبر هذه الإجابة التبرير الأخير لتأثير هذا الاتحاد في المِشْنَا بين التعليم والاستقامة.
أما (عقيبا)، الذي مثَّل الجيل الثاني من التنائيم, فكانت شخصيته تختلف عن يوحنان. فقد كان يوحنان أحد أعضاء حزب السلام في الفترة الممتدة ما بين 66- 70م، لكن عقيبا كان وطنيًا، وكرس شطرًا من حياته الشخصية في صراعة الأخير ضد الاحتلال الروماني، تحت لواء البطل (بار كوخبا/ابن النجم) في المعارك التي نشبت خلال 131 – 135م.
لقد أبدى عقيبا تحديًا للعبثية وأعلن الصمت سياجًا للحكمة, لكن نزعته كانت أشد حزمًا من الصرامة؛ فعنه رُويت أروع قصص الغرام؛ التي منها أنه كان يعمل راعيًا، ثم وقع في غرام ابنة سيده، فظل يعاني الفقر كما تعانيه زوجته المخلصة التي شعرت بالفخر لشهرة زوجها. ولكن مهما يكمن من التناقض فيما بين الشخصيتين، إلا أن عقيبا أيقن، شأنه شأن يوحنان بن زكاي، أن الأدب بلا قيمة ما لم يعبّر عن نفسه في حياة العالِم. فهو ومذهبه الذي يرفض تدني قدر الإنسان رغم ثقافته لأنها تؤدي به إلى شرور الحياة ولكنهم سلّموا بمثالية الإنسان الذي يعتبِر تفوقه الأخلاقي أهم من وهج ثقافته.
وكما قال الراب (اليعزار بن عزارياه): إن من تتفوق معرفته على أعماله الصالحة فهو كشجرة تتشعب فروعها في السماء بينما جذورها هزيلة، فإن صادفتها رياح شديدة كفأتها وأقتلعتها من جذورها, لكن من كانت أعماله الصالحة أكثر من معرفته فهو كشجرة فروعها قليلة وجذورها قوية فإن صادفتها رياح عاتية فلن تقتلعها من جذورها فهي شجرة راسخة في مكانها.
فوفقا لما ذكره عقيبا فإن الإنسان هو سيد مصيره، ويحتاج لفضل الله ونِعَمِه لكي ينتصر على كل الشرور ولكن يعتمد هذا الانتصار على جهوده : فكل شيء موجود وفي النهاية تُعطى حرية الاختيار، والعالم تحكمه الفضيلة، ولكن تبعا للعمل. إن التوارة، وهى أدبيات إسرائيل، كانت بالنسبة لعقيبا: "أداة منشودة"، أو وسيلة للحياة.
أما مئير، ممثل الجيل الثالث من التنائيم، فقد كان مفعمًا بالتعاطف, ورأى من خلال تصوره للحقيقة، أن كل ما يمكن أن يدركه الإنسان مردّه إلى التوراة؛ فالتوراة لم تحل محل سائر أفرع المعرفة أو أنها استوعبتها جميعًا، بل افتقرت إلى دراستها بشكل سليم، وإلى جميع المساعدات التي يمكن للعلوم والمعارف الدنيوية أن تقدمها.
وعلى هذا ظل الأدب اليهودي، إلى حد ما، محفوظًا من خطر أن يصير ممارسات دينية محضة. فضلا عن ذلك، فإنه حينما رغبت الجموع اليهودية في القرون المتأخرة عن الثقافة العلمية والفلسفية ونأت عنها، دومًا ما كانت هناك فئة قليلة على أهبة الاستعداد لمقاومة هذا التوجه، وظهرت دعوات، بناءً على وجهات نظر بعض التنائيم من أمثال مئير، إلى ضرورة دراسة ما أُطلق عليه في ذلك الوقت "العلوم الدنيوية/غير الدينية" secular sciences. إن حجم تعاطف مئير يمكن ملاحظته من خلال مسلك التسامح الذي انتهجه مع صديقه (إليشع بن أبويا)؛ فحينما خلع اليشع عنه ربقة اليهودية، ظل مئير مخلصًا له!. فقد كرس نفسه، وبذل جهده على أمل أن يسترد صديقه القديم تارة أخرى، وعلى الرغم من إخفاقه لم يتوقف مئير عن حب إليشع. كما اشتهر مئير بغزارة ما لديه من قصص الحكمة القصيرة القديمة لبلاد الشرق كافة. ومن الجدير بالذكر أن سعة أفق مئير كانت تتطابق مع قلبه الكبير، وفي زوجته (بيروريا) وجد مئير صاحبة يوافق مزاجها العاطفي وتسامحها مزاجه وتسامحه.
أما الجيل الرابع من التنائيم فقد أظلّه الرابي يهودا هّنَّاسي/الرئيس، حسبما أطلق عليه، الذي عاش في الفترة من 150 إلى 210م، ويرتبط ذكر اسمه بإتمام مشروع المشنا. لقد كان يهودا دمث الخلق، ذا إدراك فكري ثاقب، ومضرِبًا للمثل في السخاء وإقراء الضيف من غير اليهود والصداقة معهم. وإن تحاوره مع أحد الأنطونيين (أباطرة رومان في القرن الثاني الميلادي) دليل على ثقافته الواسعة. إن الحياة، في وجهة نظر الرابي يهودا، لم تكن خليطًا من الأحداث الجسيمة والضئيلة، وإنما شؤون الحياة وأحوالها كانت جزءا من نظام إلهي عظيم, وعلى حد قوله:
"إذا تأملت في أمور ثلاثة، فأنت في مأمن من السقوط في براثن الخطيئة: اعلم أن هناك من هو أعلى منك، وكن ذا عين ناظرة وأذن صاغية، وأن أفعالك مسطورة في كتاب".
إن المشنا التي تعالج الأمور عظيمها وحقيرها وما يهم الإنسان، إن هي إلا تعبيرات كتابية لوجهة النظر في الحياة سالفة الذكر. هذه المشنا سُطرت باللغة العبرية الجديدة، وهي لغة بسيطة تشتمل على تعبيرات متقدة الفكر لتناسب الحياة العملية، مع افتقارها إلى قوة عبرية الكتاب المقدس (العهد القديم), وما ورد فيه من أشعار. ومع هذا فإنها أكثر نفعًا، وأداة أقل صقلا من اللغة القديمة. إن الموضوعات التي تناقشها المشنا تتعلق بالشريعة والأخلاق، وشؤون الجسد والروح والعقل. أما موضوعات العمل، والدين، والواجبات الاجتماعية، والطقوس التعبدية فقد عالجتها المشنا في كل قسم من أقسامها. إن خطأ هذه الفكرة يتمثل في الربط بين أمور تتفاوت أهميتها؛ ذلك أنه من المحتمل لكل من العقل والإدراك أن يخفقا في التمييز بين العظيم من الحقير، والخارجي من الروحي.
تنقسم المشنا إلى أجزاء أو أبواب ستة (سِيدَارِيم : סדרים)، وكل جزء ينقسم إلى أقسام (مَسّيخُوت : מסכות)، وكل قسم ينقسم إلى فصول (فِرَاقِيم : פרקים)، وكل فصل ينقسم إلى فقرات اصطُلح على أن يطلق على كل واحدة منها "مِشْنَا : משנה". وترتيب تلك الأقسام الستة على النحو التالي:
زِرَاعِيم זרעים ("بذور")، وهو يتناول تشريعات الزراعة، ويبدأ بقسم عن الصلوات (البركات).
مُوعِيد מועד ("أعياد/احتفالات") ويتناول هذا الجزء الأعياد.
نَاشِيم נשים ("نساء") ويعالج هذا الجزء تشريعات الزواج وما يتعلق به.
نِيزِقِين נזיקין ("أضرار") ويتناول هذا الجزء التشريعات المدنية والجنائية.
قُودَاشِيم קודשים ("مقدسات") ويتناول القرابين، وما شابه ذلك.
طهاروت טהרות ("طهارات") ويعالج الطهارة الشخصية والتعبدية.
(يتبع)
د. سامي الإمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق