الخميس، 21 أبريل 2016

صور من التوافق العقدي بين التوراة والقرآن الكريم ( البعث ومفهومه)

 ...............................................................................................
لم يأت الإسلام لهدم ما سبقه من أديان أو ديانات, أو أخلاق كانت متّبعة قبله؛ فال
أديان كلها في الأصل دين ربَّاني واحد قائم على العقيدة, والشريعة, والأخلاق، وهدف الدِّين في أساسه هو إعطاء الإنسان المنهاج القويم يتخذه لنفسه ليسعد في دنياه وآخرته، لذا تبدَّلت الأشكال في قوالب الشرائع، وتوحَّد المضمون.

ناقشنا فيما سبق مسألتين: النظر إلى وجه الله تعالى وجزاء المستقيمين, ومشاهد من يوم القضاء. ونناقش هنا مسألة البعث ومفهومه:

ممّا جاء عن البعث في بالتوراة:
...........................................
(لكن أمواتك يحيون, وتقوم أجسادهم فيا سكان التراب استيقظوا..) سفر أشعيا 26 : 19

وجاء في تفسير هذه الفقرة أن النبي أشعيا لما رأى جزءًا كبيرًا من قومه قد تشتتوا في المنفى – كشجر أجتث من قراره (أرضه – إسرائيل) - عبر عن ذلك بأنهم ماتوا مواتًا قوميًا, وأن العلاج يكمن في العودة التي رآها بعثًا قوميًا لهؤلاء القوم الذين شُتتوا ونُقلوا من وطنهم وأهينوا. ويخاطب (شعبه) يستحثه على الخلاص : استيقظوا يا ساكني التراب – وكأنهم موتى – وعودوا ورتّلوا الابتهالات (كما كنتم تصنعون من قبل السبي والنفي) .

ليس المقصود إذن , كما يتبين من التفسير, ذلك البعث الذي يتبادر معناه للذهن بمجرد قراءة الفقرة, بعث الآخرة, بعث الأموات من القبور, الذي يسبق الحساب. فيلاحظ أن النبي يتوسل إلى الرب وينسب الأموات إلى نفسه بلفظة (נְבֵלָתִי) التي تعني (ميتي/قتيلي), والكلمة العبرية تطلق على ميت بشكل غير طبيعي, أو بهيمة نُحرت بشكل ينافي أصول الشريعة اليهودية.
وهى إشارة إلى شناعة ما حدث لشعبه (إسرائيل), وأن ما فعل به كان ظلمًا لا يستحقه.

وممّا جاء عن البعث في القرآن الكريم :
......................................................
"ونُفِخ في الصورِ فإِذا هُم مِن الأجداث إلى ربهم ينسلون * قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون * فاليوم لا تظلم نفس شيئًا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) سورة يس/الآيات 51 – 54.
وجاء في التفسير: هذه هي النفخة الثالثة، وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور; ولهذا قال : (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) والنسلان هو : المشي السريع ، كما قال تعالى : ( يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ) (سورة المعارج/الآية 43) (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) ؟ يعنون : من قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوه في محشرهم ( قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا )، وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم; لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد . وقال أبي بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة : ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة: وذلك بين النفختين . فلذلك يقولون : (من بعثنا من مرقدنا)، فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون - قاله غير واحد من السلف - : (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) . وقال الحسن : إنما يجيبهم بذلك الملائكة .
......................................
ولا ندري لماذا انصرف معنى البعث عند المفسِّر (جوردون) إلى بعث قومي بدلاً من بعث الأموات في الآخرة ونشورهم, على الرغم من وضوح المعنى أنه بعث أموات من القبور. وهذا ما أدى إلى نظر مؤرخي الديانة اليهودية إلى عقيدة البعث باعتبارها من نتاج يهودية ما بعد السبي, وربما بتأثير من ديانات الفرس. ومع ذلك فإن الفضل الرئيس في نشأة هذا الاعتقاد يعود إلى بعض الأنبياء الذين ظهروا في الحقبة السابقة على السبي, فهناك إشارات واضحة عند (هوشع) تؤكد على وجود عقيدة البعث " هلم إلى الرب لأنه هو افترس فيشفينا. ضرب فيجبرنا, يحيينا بعد يومين. في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه. وفي سفر أشعيا, تصادفنا العبارة التي نحن بصددها (لكن أمواتك يحيون, وتقوم أجسادهم فيا سكان التراب استيقظوا) . ويعطينا سفر (يونان) مثالا آخر على إمكانية البعث من خلال قصة يونان (يونس) وبقائه في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال : "ثم صعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي... وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البرّ". ومما لا شك فيه أن عقيدة البعث قد ارتبطت بتغير في النظرة الدينية إلى العالم عند الأنبياء . فالمعنى الديني للحياة الإنسانية على الأرض لا يتحقق داخل الحياة ذاتها, ولكن في عالم آخر وهكذا جمع الأنبياء بين النظرة التاريخية المستقبلية التي سيتحقق فيها الخلاص وبين نظرة جديدة إلى عالم آخر منزه يتحقق فيه الخلاص المطلق, أو ما يمكن تسميته بالخلاص الأخروي – في مقابل الخلاص الدنيوي – الذي أكد عليه الأنبياء في نظرتهم المستقبلية.

وكلام جوردون, السابق ذكره, يلفتنا إلى فكرة تحريف الكلم عن مواضعه التي تشير إليها آيات القرآن الكريم, في أكثر من موضع.
المصدر:
بحث بعنوان :
"صور من التوافق العقدي بين التوراة والقرآن"
وجهود المفسيرن في كشف معانيها.

د. سامي الإمام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق