الخميس، 19 يناير 2017

لحم الخنزير وصناعته والصراع الديني العلماني في الكيان الصهيوني

يحتل الخنزير مساحة كبيرة في الشريعة اليهودية, سواء من الناحية الشرعية أو التاريخية أو لمكانته لدى الطوائف اليهودية المختلفة. فبالإضافة إلى تحريم أكل لحمه في الشريعة, فهو حيوان مثير للاشمئزاز, وحامل هو ولحمه لأمراض عدَّة, وله خصائص سلبية في الجانب الصحي على حياة الإنسان. وقد حُرِّم أكل لحم الخنزير لوروده ضمن الفقرة التالية:
(لا تَأْكلوا الحيوانات المجترّة غير مشقوقَة الظّلف، كالجمل والأرنبِ والْوبَر، فإنها تَجترّ ولكنها غير مشقوقَة الظّلف، لِذلك هي نجِسة لكم، والخنزير لأَنه مشقوق الظّلف ولكنه غير مُجترٍّ، لِذلك فهو نجِس لكم. فلا تأْكلوا من لحم جميع هذه البهائم ولا تلمسوا جُثثها).
يضاف إلى ذلك أن عدم أكل لحم الخنزير كان يميِّز الإسرائيليين – بحسب المفسرين - عن الشعوب المجاورة لهم قديمًا. ولتحريمه تجنّب الحكماء نطق اسمه وأطلقوا عليه (الشيء الآخر/الحاجة الثانية), ويساوونه بالبراز! وعدّوه أقذر البهائم. وجاء النهي عن أكل لحم الخنزير – في التلمود أيضًا - ضمن الأشياء التي يُعقب الرب النهي عنها بعبارة (ولا تسأل أو تفكِّر) في سبب النهي! وهو ما يجعل الحكماء يصفون حكم هذا المنع بأنه يرقى إلى مرتبة (فوق فكر الإنسان وعقله)! فليس في مقدور الإنسان التوصّل إلى أهمية التحريم أو خطورته ولذا ليس له الجري وراء حكم التحريم!.
وقد استخدم أعداء اليهود الخنزير على وجه الخصوص لإساءة معاملتهم. وفي القصة القديمة التي تحكي عن أم الأولاد الذين ماتوا في سبيل الرب, يُحكى:
أن سبعة أخوة وأمهم أجبرهم الملك على أكل لحم الخنزير المحرّم عليهم, وضُربوا بالسياط والأوتار الجلدية. اندلعت حرب أهلية بعد ثلاثة أجيال بين أبنائهم (الملك يناي وزوجته الكساندرا), تُعزى تلك الحرب لتناول الأسلاف لحم الخنزير حتى لو غصبًا!
ويعدّ مربي الخنازير من أشرّ الأشرار, ويتساوى بهم من يعلِّم أبناءه اللغة اليونانية, ربما لأن لهم موقف مع اليهود قديمًا يتعلق بلحم الخنزير, حين كانت فلسطين محتلّة من اليونانيين.
ولما كانت نجاسة الخنزير تبلغ درجة كبيرة في اليهودية فقد ترتب على ذلك بعض المحظورات بشأنه؛ منها حظر المرور بين خنزيرين, وحظر مرور خنزير بين يهوديين, ولا تقرأ صلاة الـ شماع في وجود خنزير, ولا يجوز الدعاء في مكان فيه خنزير على مسافة أقلّ من أربعة أذرع, ومن الحكماء من أفتى بحرمة تعليق المزوزا (وصيّة الأبواب) بين سكان مدينة تربي خنازير, ومنهم من أباح وضعها بشرط تغطيتها بحجاب أو ستارة تُرفع كلما مرّ اليهودي وأراد لمسها أو لثمها, حظر كذلك الحديث بعبارات تتضمن أمور القداسة في وجود خنزير, وتُعصب العينان أثناء قراءة "بركة القمر" في وجود خنزير. ولذا حظرت تربية الخنازير في إسرائيل. ومعه حكم عدم اقتناء الكلاب بغير قيد في سلسلة ولضرورة معينة.
ويحظر "قانون الخنزير" المُصدَّق عليه من الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) اقتناء الخنزير أو تربيته, أو ذبحه, أو تسويق لحمه. لغير أغراض البحث العلمي فقط. ولما كان هذا القانون لا يحظر أكل لحم الخنزير صراحة, الذي هو فرض ديني, كان ذلك ثغرة ينفذ منها بعض المخالفين له!
ولمكانة لحم الخنزير السيئة في الديانة اليهودية وكذلك في المفهوم القومي لليهودية فهناك قصص عدّة لأناس فضلوا الموت على أكل لحم الخنزير غصبًا من قبل مضطهديهم عبر التاريخ.

فيلم خنزير في الأرض المقدّسة
هو فيلم وثائقي يروي حكاية لحم الخنزير الذي شغل كثيرون منذ الإعلان عن الكيان الصهيوني اليهودي في فلسطين المحتلة. وأدّى إلى نشوب خلافات حادة بين فسيفساء التجمّع اليهودي, بدعوى الحريَّة!
الفيلم يتخذ من الخنزير مادة يسقط عليها تعديل تقاليد عاشت صامتة لمئات السنين متمثلة في كراهيته وتوجيه سهام العداء له انطلاقًا من خلفية دينية عتيقة على رأي منظرو الحركة الصهيونية وأصحاب فكرة الفيلم الذين يهدفون إلى محاربة الدين وتسطيحه وتهميشه وتفكيك عرى الإيمان اليهودي الراسخ عبر الأجيال, بخلق هويّة يهودية علمانية جديدة مضادة للدين ولا تتقيد بتعاليمه ومحظوراته في شخصية (الخنزير)!
وتبدو المفارقة الصادمة حينما يتحوّل موضوع التجارة في لحم الخنزير الذي هو من أشدّ المحرمات في اليهودية هو محور أحداث هذا الفيلم, بمغزاه البعيد الذي يتبنّاه الصهاينة كرمز لثورة على صلب الديانة اليهودية وتقاليدها التي تحاول الإمساك بعِقد الطوائف اليهودية والأعراق والتيارات من الانفراط.
يقوم أعضاء مستوطنة تسمّى "مِزْرَاع" وكان نجا معظمهم من الهولوكوست, أو محرقة اليهود في الحرب العالمية الثانية, الذين بذلوا جهودًا كبيرة وصمدّوا في منفاهم للحفاظ على جذورهم الدينية اليهودية بإقامة مصنع للتجارة في لحوم الخنازير الأمر الذي أشعل نار فتنة بين العلمانيين والمتدينين على نطاق واسع, واستغلال الحكومة هذه الفتنة بالائتلاف مع المتدينين ومواجهة هذا الفكر العلماني المتطرف والذي يعد مناوءًا لجوهر الدولة (أو جوهر الادعاء بدولة دينية!).
وتعتمد فكرة الفيلم على عزو كراهية لحم الخنزير إلى أسباب تاريخية – وتجاهل الحكم الديني – ويرجع ذلك إلى سلوك الأغريق مع اليهود أثناء احتلال فلسطين (160 – 180 ق.م), حيث كانوا يستفزون اليهود المتمردين بتمرير شحم لحم الخنزير على شفاههم كنوع من العقاب! وكان انتيوخوس (هو أنتيوخوس الرابع على الأرجح لأن هناك 13 حاكمًا يحملون هذا الاسم), أرسل جنوده إلى فلسطين لإرغام اليهود على تقديم قرابين من الخنازير لمعبد "زيوس", الوثني في أورشليم, الأمر الذي أدى إلى نشوب تمرّد الحشمونيين (المكابين).
لكن المتدينين, في الكيان الصهيوني, لم يقبلوا هذا التفسير وتجاهل الحظر الديني الصريح لكل ما يتصل بالخنزير وليس بتناول لحمه فقط! كما أوضحنا سابقًا, وعدّوا من يتعامل في لحم الخنزير سواء كتجارة أو التسويق أو تناوله لونًا من الكفر!.
سُئل مدير مصنع لحوم الخنازير إبان ثورة لمظاهرات الرفض والتأييد لهذا النشاط اللا ديني! والمقوض لفكرة يهودية الدولة, إذا ما كان سيغير نشاطه إلى (لحوم الحلال) فردّ قائلا بما لا يدع مجالا للتاويل: تجارة اللحم غير الحلال هى أيديولوجية وطريقة حياة" يقصد لا علاقة لها بالدين.
يبرز الفيلم رأيي المعارضين والمؤيدين للنشاط في لحوم الخنازير, فيرى المعارضون (الحريديم/المتدينون) أن من يعمل في لحم الخنزير هو مرتد عن اليهودية وخارج عنها, بل عن القومية اليهودية أيضًا, في حين يرفض المؤيدون (العلمانيون/واللادينيون/والملحدون/وغيرهم), رأي فريق المعارضين ويعدّون أدائهم للخدمة العسكرية هو دليل وطنيتهم وليس تناول لحم الخنزير أو العمل به. (جدير بالذكر أن الحريديم الذين يتهمون العلمانيين بعدم الوطنية لا يؤدون خدمة عسكرية! إلا مؤخرًا بعد صراع مع الدولة ولا يزال).
وسيباح تناول لحم الخنزير – في الرؤى الأخرويّة ويُرفع عنه الدنس والرجس في المستقبل عند قدوم عصر المسيح المنتظر (لدى اليهود) حيث تحلّ فيه السكينة والوئام حتى بين المخلوقات الأخرى فيربض الذئب مع الغنم ويلهو الوليد مع الحيَّة. ويعتمد فريق هذه الرؤية ويستدل على حقيقتها انطلاقًا من التحليل اللغوي لمعنى الاسم خنزير بالعبرية (حازير) وهى صيغة تتضمن أحد معاني العودة والرجوع من الجذر (חזר : ح.ز.ر) التي تعني في العبرية العودة والرجوع!
د. سامي الإمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق