الأحد، 1 ديسمبر 2019

"الصحوة الشيعيَّة" ولماذا تُرجم إلى العبريَّة (2)

**************************************
الشعائر الحسينية
بعد تعتيم الإعلام الحكومي الصدامي والعربي الطائفي على طقوس الشيعة رسمت زيارة أربعين سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه وسلامه) الأولى بعد سقوط نظام صدام المقبور مشهداً لافتاً للعالم، حيث جموع غفيرة من الزائرين تزحف سيراً على الأقدام إلى مدينة كربلاء، ملايين تزحف غير مبالية بالأخطار المحدقة وغير مبالية بتوقف كامل لخدمات الدولة، تزحف هذه الملايين إلى مرقد سيد الشهداء الإمام الحسين (سلام الله عليه).
يقول ولي نصر أستاذ سياسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا في دائرة الدراسات العليا التابعة للأكاديمية البحرية في أمريكا في كتابه صحوة الشيعة عن هذه المشهد اللافت: 
"في ذلك الأربعين بالذات الذي جاء غداة اليوم المشهور الآخر، يوم اسقط رجال الماريننز الأميركيون، وعراقيون مبتهجون، تمثال صدام المجوف في ساحة الفردوس ببغداد، صادف أن كنت في ضواحي لاهور.. وكان جهاز التلفاز مولفاً على محطة (سي أن أن)، حيث أن الجميع كانوا يتابعون الأخبار الاتية من العراق، فتحولت التغطية المتلفزة إلى نقل مشاهد لشبان شيعة يقفون مكتظين متراصين، في ظل القبة المذهبة لمقام الإمام الحسين في كربلاء، كانوا جميعاً يرتدون قمصاناً سوداء، ويعصبون رؤوسهم بأوشحة خضراء اللون؛ كانوا ينشدون مرثاة بالعربية لإمامهم المحبوب، وهم يرفعون أكفهم عالياً نحو السماء، كما لو كانوا يصلّون ثم ينزلونها في تساوق وانسجام لتقرع صدورهم في حركة إيقاعية متواترة ملؤها التفجع والتضامن .. كانت للصورة جاذبية المغناطيس، لقد كان الشيعة يومها في الشوارع والطرقات، وكانوا يرفعون عقيدتهم وهويتهم عالياً كي يراهما الجميع، فجعلنا نبحلق في شاشات التلفاز ..." .
ويعزي ولي نصر أحد أسباب دراسته للشيعة وكتابته كتاب (صحوة الشيعة) إلى المشاهد التي شاهدها ذلك اليوم الحسيني الباهر: "كنت في رحلة استطلاعية في باكستان خلال شهر نيسان/ أبريل 2003 حين احتشد زهاء مليوني شيعي في كربلاء العراقية لإحياء ذكرى (الأربعين) لاستشهاد الإمام الحسين في كربلاء عام 680م. كان صدام قد حظر إقامة مثل هذه التجمّعات لسنوات طويلة. فآخر شيء كان يريده هو أن يرى مثل هذا العدد الغفير من الشيعة محتشداً في مكان واحد، وفي حالة من الاستثارة الدينية الجيّاشة، لتبجيل بطلٍ من أبطال دينهم، يمتّ بصلة القربى إلى النبي محمد، وقضى نحبه ـ على ما يعتقد الشيعة ـ وهو يُقارع الظُلم والطغيان حتى الرمق الأخير".
ويواصل الباحث ولي نصر حديثه عن مشهد (زيارة الأربعين) المدهش: "في ذلك (الأربعين) بالذات، الذي جاء غداة اليوم المشهور الآخر، يوم أسقط رجال (المارينز) الأميركيون، وعراقيون مبتهجون تمثال صدام المجوَّف في ساحة الفردوس ببغداد، صادف أن كنتُ في ضواحي لاهور في زيارة لمقر جماعة سياسية أصولية إسلامية تُعرف بـ جماعتي إسلامي (الحزب الإسلامي أو الجماعة الإسلامية). كان جهاز التلفاز في المكتب مولفاً على محطة "السي إن إن" حيث إن الجميع كانوا يتابعون الأخبار الآتية من العراق، فيما وقف أفراد "الجماعة" السُنّة مشدوهين مذعورين لما تراه أعينهم. وإذا بجوٍ بغيض يغشى القاعة.
ويضيف: "لم يحدث أن رأى العراق مثل تلك المشاهد على مدى جيل كامل أو أكثر وها هو العالم الآن يقف شاهداً على صحوة الشيعة وانبعاثهم. كان المعلِّق في (سي أن أن) يكرر القول بأن العراقيين باتوا أخيراً أحراراً ـ كانوا يؤدون طقساً لا يفقه الجمهور في الغرب معناه، لكنه كان محرّماً على الشيعة لعقود وعقود. ما كان يراه الأميركيون حرية عراقية، كان المضيفون الباكستانيون يرون فيه عرضاً صفيقاً لشعائر تجديفية تدخل في باب المحرّمات بالنسبة للمتشدّدين من أهل السُنّة. العراقيون الآن أحرار ـ أجل أحرار في أن يكونوا شيعة، أحرار في تحدّي السلطة السُنّية والمفهوم السُنّي لـ "المسلم الحقيقي"، وأحرار باستردادهم لمعتقداتهم التي يعود عهدها إلى ألف سنة أو يزيد. قال واحد من مضيفيّ: هذه أعمال باطلة. العراقيون ـ وكان يقصد بهم الشيعة ـ لا يعرفون كيف يُمارسون الإسلام ممارسة صحيحة. وأضاف بأن السجالات بين السُنّة والشيعة حول حقيقة الرسالة الإسلامية وكيفية ممارستها سوف تستمر، وهي لن تستمر بشكل سلمي ورمزي فقط، بل بالقنابل والرصاص أيضاً. ولم يكن يتكلّم آنذاك عن العراق، بل عن باكستان".
وفي استقراء للوجدان السني يقول الكاتب ولي نصر متحدثاً عن انعكاسات سقوط طاغية مجرم على نفوس المتدينين في باكستان. يقول: "أقرّ كل من كنتُ في ضيافتهم من "الجماعة الإسلامية" فيما يُشبه اليأس بأن الوضع في العراق سوف ينكأ الجراح الطائفية في باكستان، وأن الصراعات التي ستتلو حتماً في العراق لا بد وأن تكتمل فصولاً في المساجد وعلى قارعة الطُرُقات في كراتشي ولاهور أيضاً. وفي وقت لاحق من تلك السنة، حدثت تفجيرات أثناء احتفال الشيعة بعاشوراء (المناسبة الرئيسية لإحياء ذكرى استشهاد الحسين)، فقتلت العشرات في بغداد والنجف، وفي كويتا بباكستان. ثمة خيط مشترك كان قد بدأ فعلاً يحيك النزاع الطائفي في كلا البلدين. وهذا الخيط كان ومنذ أمد طويل في صُلب النسيج المكوِّن للحياة الاجتماعية والسياسية على امتداد الشرق الأوسط الكبير ـ يكون حيناً غير مرئي متوارٍ داخل سياسة محلّية يُمكن لها أن تكون أشدّ تعقيداً وأغنى بالألوان من نقشة سجادة أصفهانية، وقد يكون في أحيانٍ أخرى بارزاً جلياً للعيان كالخط الفاصل المرسوم وسط طريق سريع".
تاريخ نزاع
لا شك بأنه مع دخول الألفية الثالثة وتطور وسائل الاتصال وتبادل المعلومات تعززت بشكل واضح الانتماءات الفرعية – إذا جاز التعبير – أو بشكل أدق الانتماءات الخاصة على حساب الانتماءات العامة، حتى أخذ عدد من مفكري السياسات الاستراتيجية بتوصيف سياسة هذا العصر بـ(السياسة القائمة على الهوية). تماماً كما لو أن عالمنا يتمدّد وينكمش في الوقت نفسه، بشرٌ مختلفون فيما بينهم يعتنقون قيماً كونية، وجماعات كانت ذات يوم منعزلة باتت تُشارك على مستويات غير مسبوقة في التجارة والاتصالات مع العالم الخارجي. لكن الواقع مع ذلك هو أن الروابط العرقية واللغوية والإثنية والدينية البدائية، أو القريبة من البدائية، ما برحت تفرض وجودها بتصميم عنيد. هذا هو الحال في زماننا، وليس في مقدور العالم الإسلامي أن يهرب منه. إن نزاعات الهوية فيه في حركة مدّ وجزر، وهي إلى تجانب الصراعات التي غالباً ما تستقطب أنظار العالم ما بين الأصولية والحداثة، أو ما بين التسلّطية والديمقراطية، ما سيرسم صورة المسلمين في المستقبل.
وفي إطار النزاع الإسلامي – الإسلامي يقول الباحث ولي نصر: "إن النزاع الشيعي ـ السُنّي هو في آن معاً صراعٌ على الإسلام، ومظهر من مظاهر الحرب القبلية بين إثنيات وهويات؛ وقد يبدو عتيقاً مهجوراً في بعض الأحيان، إلا أنه مع ذلك حيويّ إلى حدٍ مدهش وقد صارت البشرية معتادة عليه لدرجة الإملال. وإن الإيمان والهوية يصبّان في هذا النزاع، وقوتهما المتضافرة تُفسِّر لنا إلى حد بعيد لماذا دام هذا الصراع برغم فترات التعايش التي عرفها كل هذا الزمن المديد، وما الذي جعله يحتفظ بمثل هذه الراهنية والأهمية. إنه ليس مجرد نزاع أو خلاف ديني قديم العهد، أو قطعة متحجّرة تعود إلى السنوات الأولى من ظهور الإسلام، بل هو تصادم راهن بين هويات متضاربة وإن الخلافات اللاهوتية والتاريخية تغذّيه، وكذلك مشاغل الحاضر لجهة السلطة والاستتباع والحرية والمساواة، ناهيك عن الصراعات الإقليمية والمؤامرات الأجنبية. ومن المفارقة بمكان أنه نزاع عتيق جداً لكنه حديث للغاية".
وفي تداعيات هذا الصراع بوقائعه الجديدة واللاهبة أن زعزعت الدعوة الأميركية الى نشر الديمقراطية في المنطقة حلفاءها في الوقت الذي عجزت فيه عن استرضاء أعدائها. والحرب في العراق حملت إلى السلطة إئتلافاً دينياً شيعياً وأوجدت تمرداً إسلامياً ـ قومياً لا يفتأ يُلهب جذوة التطرف الجهادي. يقول الباحث ولي نصر: "وهكذا استرعى النزاع الشيعي ـ السُنّي انتباه العالم. لكن بالنسبة للعرب والإيرانيين والأفغان والباكستانيين الذين يعيشون في المنطقة، إنه البلاء الدهري الذي ينفجر من آن لآخر ليصوغ التاريخ واللاهوت والشرع الإسلامي، فضلاً عن السياسة الإسلامية. ولطالما كان هذا النزاع أكثر أهمية بكثير في رسم صورة الشرق الأوسط مما يُدرك الكثيرون أو يعترفون به، لقد كانت للغرب، هو الآخر، حروبه الدينية. فهناك حرب الثلاثين سنة؛ وهناك النزاع الطائفي في إيرلندا الشمالية حتى يومنا هذا؛ وهناك أشكال التحامل والتمييز الصامتة، لكن الحقيقة، التي يُمارسها الغربيون بحقّ بعضهم بعضاً بسبب الفوارق والاختلافات الدينية. لم تكن تلك النزاعات دائماً على قضايا تتعلّق بالمبادئ اللاهوتية، بل كانت في أغلب الأحيان تعبيراً عن ادعاءات متنافسة بأحقّية امتلاك السلطة تُطلقها جماعات متزاحمة فيما بينها وتعود في جذورها إلى هويات دينية متباينة. فالدين ليس فقط عن الرب والخلاص، بل هو ما يرسم حدود الجماعات. والقراءات المختلفة للتاريخ واللاهوت والشرائع الدينية إنما تؤدي الدور نفسه الذي تؤديه اللغة أو العرق في تحديد ما الذي يجعل كل هوية نسيجاً وحده، وكذلك في البتّ بمن ينتمي ومن لا ينتمي إليها".
ويضيف: "لا مراء في أن الصدع القائم بين السُنّة والشيعة هو الحقيقة الأخطر في الإسلام. فقد انفصلت الطائفتان بعضهما عن بعض في زمنٍ مبكر من التاريخ الإسلامي، وكل واحدة منهما ترى في نفسها العقيدة الأصلية القويمة. إن انفصالهما يُماثل إلى حد ما الانشقاق البروتستانتي ـ الكاثوليكي في المسيحية الغربية. ومثلما أن النزاعات والصراعات السالفة ما بين الملل والنحل المسيحية هي التي صنعت السياسة في أوروبا، أرى أن النزاع بين السُنّة والشيعة هو ما سيرسم على الدوام معالم التاريخ في العالم الإسلامي والشرق الأوسط الكبير. لقد تمحور الفهم السُنّي للسلطة حول الانشغال التام بمسألة الأمن والنظام. فالدين لا يتوقف على نوعية السلطة السياسية بقدر ما يتوقف على قُدرته على رفد الإيمان كي يبقى حياً وينمو. وهكذا وجدنا المشرّعين السُنّة في القرون الوسطى يطوّرون نظرية في الحُكم يدعم بمقتضاها رجالُ الدين السلطة الحكومية طالما ضمن الحكّام النظام والاستقرار وحموا الجماعة المسلمة . واستطراداً، ليس السلاطين ملزمين بأن يكونوا قادة روحيين أو الادعاء بأنهم يقيمون نظاماً إسلامياً كاملاً. وللمرء حتى أن يقول إن وظيفتهم الأساسية هي بالأحرى حفظ قيم الإسلام ومصالحه وليس تحقيق مثالاته الروحية. وهذا ما يُميِّز الموقف السُنّي تجاه السلطة عن نظيره لدى الشيعة، الذين ينكرون على الخلفاء والسلاطين مثل هذه الشرعية. لكن يبقى أن ما يُباعد بين الشيعة والسُنّة على نحو مؤكّد هو ذلك الاحتفال الكبير من فعاليات الحِداد والتذكّر والتكفير الذي هو عاشوراء. إن التشيُّع ومنذ أيامه الأولى، قد عُرف بالشواهد التي يملكها على التزامه بالمبادئ الأخلاقية للإسلام ـ شواهد تجد تعبيرها العلني الأكبر في ممارسة الشعائر والطقوس، ومن خلالها تلك التي تذكِّرُ الجماعة بالمكانة الخاصة التي يحتلّها الحدث المكوِّن للتشيُّع بامتياز. ولئن كانت هناك بالفعل مقاربات شيعية للعقيدة الإسلامية وللشرع الإسلامي، إلا أن هذه نشأت وتطوّرت جنباً إلى جنب مع الشعائر والطقوس".
يتبع 
د. سامي الإمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق