جاء في مقدمة مترجِمة الكتاب الدكتور/ماري شهرستان:
قال موسى بن ميمون؛ وهو عَلَم من أعلام اليهوديّة الحاخاميّة في القرن الثاني عشر :
"هناك بشر غير قادرين على مقاربة الله: إنَّهم نوع البشر الذين هم ليس لديهم أي معتقد ديني ولا علمي ولا تقليدي, مثل آخر الأتراك في أقصى الشمال والزّنوج في أقصى الجنوب والذين يشبهونهم في مناخاتهم. هؤلاء يعدّون مثل حيوانات غير عاقلة, فأنا لا أصنفهم في مستوى البشر؛ إذ إنهم من بين الكائنات الحيّة صنف من البشر وأعلى من القردة. بما أن لديهم وجه وملامح الإنسان وفطنة أعلى من القردة."
لقد نفخ الله في كل كائن بشري نفخة الحياة؛ أي الروح, والتي نسميها النّفس (في اليهودية).
أما فيما يخصّ الشعب اليهودي ؛ فلقد اودعت نفس إضافيّة (نفس إلهيّة). بالنتيجة كل واحد منّا (أي اليهود) يمتلك نفسَين تحت تصرفه.
"فإذا كانت الروح الحيوانية الموجودة في الدم تثير رغبات جسدنا فإن الروح الإلهيّة الموجودة في الدماغ تكون المقوي للرابط المستمد مع خالقنا".
نفهم – الآن – بشكل أفضل شروحات ابن ميمون. وبذلك يكون اليهودي مصنّفًا في الأعلى, وهو مجهّز بدماغ وبروح إلهيّة قادرة أن تربطه بواسطة المعرفة بالخالق. وفي درجة أدنى يكون غير اليهودي مجهزًا بدماغ – هذا أكيد – لكنه لا يملك روحًا إلهيّة. وفي أقصى الأسفل؛ أي في حدود الحيوانية يوجد الزنجي, وهو كائن "غير عاقل" , وبالتالي؛ تحركه فقط رغبات الجسد.
هذه الأقوال ليس هدفها التعرض لمعتقدات البعض التي هى محترمة طالما أنها نفسها تحترم الاختلاف.
إنها تعرض ظاهرة تخرج من ميدان الإيمان, وهى معروفة جيدًا من قبل الذين يهتمون بمسألة العنصرية: وجود تيار قوي من عقدة الآخر, في العالم اليهودي الماضي والحاضر, وقد يبدو – في البدء – وكأنه متناقض. ومما لا شك فيه أن هذا التيار ليس في الأغلبية.
فغالبية اليهود – الذين تثقفوا بالأفكار العنصريّة لابن ميمون أو لبعض الحاخامات الأُخر – هم يرفضونها, ونحن لا نشكّ بذلك, فهؤلاء كلهم يجب ألا يشعروا أنهم مستهدفون بأسطر غير موجهة لهم إطلاقًا. وليفكر الآخرون – مليًا – بالخطر المحدق بالإنسانية التي تسببه بعض المراجع العنصرية, أو بعض المزاعم بالتفوُق وعلو الشأن. فليسلم الجميع أن حقّ مساواة جميع البشر في العزّة والكرامة – يهودًا كانوا أم غير يهود – تتطلب – اليوم – أن يكون البحث الاعنصري كاشفًا العالم اليهودي والعالم غير اليهودي على حدّ سواء. فما يقع – حاليًا – على الفلسطينيين والإسرائيليين من أصل عربي يبرر ضرورة هذه الخطوات. وعليه – يتوقف مستقبل حضارتنا.
هناك عدة أعمال حديثة بينت أن اليهود المتدينين أو الأرثوذوكس هم أكثر حساسية للموضوع العنصري من اليهود الملحدين. هذه الظاهرة هى واضحة جدًا في (إسرائيل) على سبيل المثال. فبحسب "شمعون أبشتاين" . وهو حاصل عل الدكتوراة في العلوم السياسية وباحث إسرائيلي لدراسة العنصرية: إن دعم العنصرية في (إسرائيل) منتشر – بشكل واسع – عند جميع الشباب, لكنه أقوى – بشكل واضح – عند شباب المتدينين أكثر منه عند العلمانيين. ويشير أبشتاين – أيضًا – أن مُدرسي المدارس الدينية هم حساسون بجزء على الأقل من المواضيع العنصرية أكثر من طلاب المدارس العلمانية الذين "يفضلون الصمت" ومنذئذ هناك سؤال أساسي يطرح نفسه في دراسة منشا هذه "الغيريّة المرَضيَّة او "فوبيا الآخر": هل يجب أن نقيم علاقات بين العنصرية اليهودية والشريعة الدينية اليهودية؟
لن نستطيع الإجابة عن السؤال الأساسي الذي هو أصول العنصريّة اليهودية دون أن نبحث في النصوص المؤسسة لليهودية, التي هى – بحسب اليهود الأرثوذوكس أنفسهم – تحدد – بقسط كبير – لاهوت التميُّز.
نقفز عبر المقدمة إلى الهدف من هذه الدراسة المتضَمَة في كتاب "اليهودية والغيريّة", فهذه الدراسة هى – إذن – والكلام لمترجِمَة الكتاب – ليست هجاء , ولا تأويلا للكتاب المقدس (اليهودي), ولا حلّ رموز قبلانيّة رمزية أو باطنيّة للكتي, ولا هى درس في اللاهوت تأويلا, توجهنا ومرادنا تاريخي, ويتعلق بالمعنى الحرفي للنصوص التي تصنع الضمائر. سوف نتبع بذلك الحاخامات الذين بالنسبة لهم "لا يمكن لأي نصّ توراتي أن يفصل عن معناه الحرفي", أردنا بعد ذلك قياس الأثر الذي تحدثه هذه النصوص على الضمائر.
إن عمل فلافيوس جوزف (أو هو من يعرف بـ يوسف فلافيوس), يتناسب تمامًا مع هذا التمرين, كان باستطاعتنا أن نختار غرضًا للدراسة أكثر معاصرة, غير إنه يبدو لنا من الأفضل أن نبتعد عن النزاعات السياسية, الدينية وعن الأحداث الجارية. اخترنا أن ندأب في عمل مؤرخ انطلاقًا من عناصر يكون تأثيرها العاطفي أقلّ وطاة. ولماذا فلافيوس جوزف؟
جوزف هو مؤرخ يهودي من القرن الأول الميلادي قد ترك لنا عملا مهمًا, وهو – أيضًا – حبر في الشريعة؛ أي يعرف ديانته جيدًا. وهو يهودي يعتبره يهود الأمس ويهود اليوم خائنًا. فهو في خضم الحرب اليهودية اختار الفريق الروماني الذي هو من الآخرين المُشنَّع عليهم (أي المرفوضين).
فشهادة جوزف ليست شهادة (زيلوتي : مستهينًا بالأمر), أو اندماجي أو متحمِّس. إنها شهادة يهودي معتدل فيه حتى من قبل النقاد المعاصرين, إنه يتدبر الغيريّة التي هو متعلق بها, ويعمل عليها. فجوزف هو المثل العاطل إذًا, وقابل على كل حال لمناقضة الفرضية القائلة بالأثر الحاسم للغيريّة المرَضيَّة التوراتية على الضمائر.
ومهما كان الأمر سوف نرى أن شهادة جوزف توحي بأنّ بعض النصوص التوراتية قد حيّدت حسّه الأخلاقي وضميره, إذ إن جوزف – في الواقع – حتى لو انه من مؤيدي الحوار مع الآخر, وحتى لو انه يبحث عن وسيلة اتصال فيها صراع أقل مع الأغيار, لكنه لا يستطيع أن يخرج تمامًا من العنصرية اللاهوتيّة التي طبعت طائفته. وواضح أن البحث عن الحوار الذي هو موضع انتقاد فيه لم يمنعه من أن يخضع لثقافة ألفيَّة, وأن ينتمي بعمق للكتابات الكبيرة الغيرية المرَضَّة للديانة اليهودية, والتي فهمها حرفيًا مثل كل معاصريه.
إن مؤلَّف جوزف يبين لنا – أيضًا – أن المقاربة الحرفية للنص هى التي يجب الاستناد إليها, أولا؛ للحكم على تأثير الكتابات التوراتية على الضمائر. هذا العمل يسمح لنا – أخيرًا – من تبيان الأثر المشؤوم لبعض النصوص التوراتية على العلاقات التاريخية لليهودي مع غير اليهودي.
من مدخل الدراسة للكاتب:
لقد أكد "إرنست رينان" في افتتاحيته لدروس اللغات العبرية والكلدانية والسريانية في المعهد الفرنسي أن اليهودية في العصر الروماني كانت تحتوي على مبدأ ذي شكليّة ضيقة وتعصُّب مطبق ومحتقِر للأجنبي. وحدد أن ذلك كان بسبب الذهنية الفريسية التي أصبحت – في ما بعد – الذهنيّة التلموديّة.
ويبدو فلافيوس جوزف وكأنه يصادق على أقوال رينان, فيكتب أن الحرب قامت بين اليهود والرومان من 66م الى 74م كان سببها رفض قبول التقدمات والتضحيات الآتية من الأجانب : إنه أليعازر ابن الكاهن الأكبر حنانياس. فهو شاب ذو جُراة كبيرة, كان – في وقتها – قائد شرطة المعبد (الأصح الهيكل), لقد أقنع الوزراء في العقيدة أن لا يقبلوا – من الآن فصاعدًا – أي تقدمة أو ذبيحة من أي أجنبي : كان ذلك أساس الحرب مع الرومان, إذ أنهم رموا بالأضاحي المقدمة لحساب الرومان وقيصر على حدّ سواء ... وقد أشار "بيير فيدال" ناكيه من جهته أن هذا القرار دفع بمنطق الانعزاليين إلى حدِّه الأقصى.
هذا المنطق يبدو أنه طبع تيارًا كبيرًا في المجتمع اليهودي للقرن الأول, وقد يكون تيار الغلبية. وهو ما يفسر جزئيًا لماذا بدأ هذا المجتمع – وقتها – أنه قد انغلق على نفسه, وأخذ ينشِّط عملية إقصاء واستبعاد الآخرين؛ مثل التي كانت أيام (المتحمسين للشريعة) في زمن المكابيين. هذه السياسة – سياسة الانغلاق – تناقض سياسة الانفتاح والتسامح عند اليهود المتهلينين (الإغريق/اليونان القدماء), التي أدت عام 167م إلى إقامة عبادة زيوس (كبير آلهة الرومان) الأوليمبي.
ياريت لو متوفر نسخة من الكتاب bdf
ردحذفمجهود ممتاز