حرص السلف والخلف من الإسرائيليين على الدفن في قبور العائلة, ويفضل أن
تكون داخل إسرائيل, وتأكيدًا على هذه الأفضليّة فقد رأى المشرِّع اليهودي
ضرورة التأكيد على هذا التوجه فأدّعى أن الأراضي الخارجة عن حدود إسرائيل
تعدّ نجسة, وقد تسبب المتاعب لروح الميت المدفون فيها وتسبب لها عدم
الاستقرار.
وزيادة في ترسيخ هذا المفهوم وصفت أرض إٍسرائيل بأنها "أرض تأكل سكانها" ويقصد بهذه العبارة أن هذه الأرض تُعجِّل بتحليل أجساد الموتى المدفونين بها, وبذلك تجد أرواحهم راحة حقيقية في مستقرها العلوي! بأسرع ما يمكن. ويوصى بعض الموتى قبل وفاتهم بوضع الجير الحي على أجسادهم بعد الموت بغرض استعجال تحلل الجسد, والمستقر الأخير.
تبقى نصوص في كتاب (العهد القديم) تتضمن تلميحات إلى أن أرواح الموتى كان بالإمكان استحضارها عن طريق السحر, ليس هذا وحسب بل كان بمقدورها أن تؤثر بحسب المعتقدات آنذاك في أقدار الأحياء وحظوظهم كما كانت تتنبأ بمصائرهم؛ فهذا "شاءول" على سبيل المثال يطلب من ساحرة كانت في قرية "عين دور", استحضار روح النبيّ "صموئيل" الذي كان راقدًا في قبره في قرية "الرامة", ليسأله النصح في شأن معركة فاصلة كانت – في ذلك الزمن القديم – بين جنوده وجنود الفلسطينيين, وقد تمكنت الساحرة من استحضار روح النبي صموئيل, ولما حضرت تلك الروح قامت بتوبيخ "شاءول", الملك, وأخبرته بانتصار الفلسطينيين في هذه المعركة, وأنه يجب عليه أن يسلِّم المُلك لداود (سفر صموئيل الأول 28 : 3 - 19).
وكان المعتقد أن أرواح الموتى من مصادر الشرّ والضُرّ الذي يصيب الأحياء لذلك دأبوا على التقنّع وتسويد الوجه وتشويهه ولبس الرث من الثياب كي لا تتعرّف أرواح الموتى على الشخصيات وتصيبهم بالضرر. لذا كان تعليل صراخ المحدِّين وعويلهم هو دفع أرواح الموتى بعيدًا عن مناطق الأحياء إتقاء لشرّها. لذلك اعتقد الناس أن تقديم القرابين للموتى وكذا وضع وسائل إعاشة, وحتى أدوات للزينة, بل وأسلحة إلى جوار جسد الميت في قبره, اعتقدوا أن هذه القرابين تقيهم ضرر هذه الأرواح ووصل الأمر, في بعض المناطق, إلى زيارة القبور بغرض شفاعة الميت, او استكشاف الغيب.
وعلى الرغم من أن التوراة تتضمن نصوصًا صريحة لمنع تلك المعتقدات, وتصدى لها الأتقياء من الملوك, إلا أنها ظلت كظاهرة شائعة لكن لم تصل إلى درجة عبادة الموتى كما كان لدى شعوب أخرى في منطقة الشرق الأدنى القديمة.
ولا ريب أن بني إسرائيل تعلّموا من المصريين في حقبة وجودهم على أرض مصر قديمًا (حوالي 400 سنة), تعلموا العناية الفائقة بأمور الموتى سواءً جسديًا في القبر أو روحيًا بالاعتقاد في حياة أخرى بعد الممات في الجهة الغربية من الكون! تأثرًا بغروب الشمس واختفائها في جهة الغرب فاعتقدوا أن الروح كذلك تسكن عالمًا يقع جهة الغرب. فمن صور الاهتمام بما بعد الموت نجد "أبشالوم" وقد صنع, في حياته, شاهدّا ليوضع بعد مماته على قبره, دوَّن عليه عبارة "ليس لي ابن يذكر اسمي", وهو ما يؤكد ما سبق ذكره من تأثرهم بالمعتقدات المصرية القديمة, وأن الميت في حاجة إلى من يهتم بدفنه وحسن ذكره بعد الممات.
وتأتي فكرة البعث بعد الممات باهتة في بعض أسفار "العهد القديم" لكننا نكتشف أن البعث خاص ببني إسرائيل فقط دون العالمين !! وكأن عنصريّتهم تستمر بينهم وبين بقية البشر حتى بعد الممات؟!
وقد تأثرت بعض فرق اليهود كالقرائين, بالإسلام, فنجد من بين معتقداتها الإيمان بيوم الدين, اليوم الآخر, يوم البعث والنشور؛ أي إعادة الموتى إلى الحياة, وإعادة أرواحهم إليهم بعد إخراجهم من قبورهم وعودة أجسامهم إلى ما كانت عليه,سواءً أكانت في بطون الأرض أو في قاع البحار, لمواجهة الحساب, استنادًا إلى نصّ سفر النبي "دانيال" : كثير من النائمين في الثرى يستيقظون, منهم إلى النعيم الأبدي, ومنهم إلى الجحيم الأزلي".
رحلة الغُسل الشاقة:
تمر عملية تغسيل الميت بمراحل عدة؛ حيث تغسل أجزاء الجسد بترتيب معين, وتستخدم أوان عدة, كما يتخلل مراحل الغسل قراءة دعوات للرب والثناء عليه وطلب الرحمة للميت. ثم يوضع على خشبة الغُسل بعد غسلها جيدًا, وتقال بعض الأدعية الخاصة بعملية التغسيل, ثم تُصب مياه فاترة على جسد الميت, ويبتدأ بغسل الرأس, سبع مرات بسبع أوان, الأولى بالماء, والثانية بالصودا, والثالثة بالصابون, وهنا يقرأ دعاء معين, أما المرتان الرابعة والخامسة فبالماء فقط, وأما السادسة فبأوراق الآس (نبات عطري), وتقال بعض الأدعية, وفي المرة السابعة يغسل الرأس بالماء البارد. يأتي بعد ذلك في ترتيب الغسل الذقن حيث يجب غسلها بثلاث أوان ويقرن الغسل بدعاء معين, فمنطقة القلب والبطن والأكتاف, التي تغسل بآنيتين, ثم الذراع الأيمن من الأمام, يليه الذراع الأيسر من الخلف, ويغسلان بآنيتين, ويبتدأ بغسل الذراع الأيمن من أعلى, أما الذراع الأيسر فيبتدأ بغسله من أسفل, ويقرأ دعاء معين. ثم يأتي دور الجزع, فمنطقة أعلى الفخذين, بإناء آخر, فالعورات من الأمام ومن الخلف بإناء ثالث ويكون الغسل بالصابون, ويقرأ دعاء معين. وأخيرًا يأتي دور الأقدام والوجه والفم والأنف.
وعقب الانتهاء من غسل الميت بهذا الترتيب يُرش على جسد الميت جميعه مياه غزيرة. وهناك حالات تُوجب تطهير الميت بقليل من الخمر!, كالذي يموت بسبب التعذيب الشديد, والعلة هى احتمال أن يكون تغوَّط في ثيابه, كما يوصى بوضع هذه الثياب مع الميت في تابوت الدفن.
ومن الأمور المهمة الواجب مراعاتها أثناء الغسل عدم تناول الأدوات من يد المغسِّلين بل لابد من وضعها على الأرض وكلُ في دوره يأخذها من على الأرض, كما يجب عدم إقلاب لوح الغسل على الميت خشية أن يموت شخص آخر خلال سبعة أيام!!
يغطى الجسد بعد ذلك بلباس داخلي, سروال في جزئه السفلي, ولباس وعمامة في جزئه العلوي, ثم يلف رأسه ووجهه, وفوق ذلك كله يُلّف على جسده شال الصلاة (الطلِّيت) الذي كان يتدثر به حين الصلاة أثناء حياته منذ بلوغه سنّ التكليف الشرعية (12 سنة للفتاة, و13 سنة للفتى), ولو كان لديه أكثر من شال توضع الشيلان الزائدة عن لفّ الجسد الى جواره في التابوت.
تجوز صناعة الكفن من الأنسجة المخلوطة, ويجب أن يكون الكفن بسيطًا حتى لو كان الميت من علية القوم, والمعتاد أن يتم الدفن في أردية بيضاء كالكتان. والرجل لا يكفن المرأة لكن المرأة تكفن الرجل! ويقصّ الشعر, وتقلّم الأظافر, ويحاط رأس الميت بالبيض المقلي بقشوره! قبل التكفين. ومما يجب على الابن إغماض عيني أبيه الميت.
يوضع الميت بعد تكفينه بالكيفية التي شرحناها فيما سبق, في تابوت الدفن, وتُقرأ دعوات معينة, ثم يغطى التابوت وتتلى أثناء تغطيته أدعية أخرى. ثم يُحمل التابوت إلى حيث الدفن بينما تقرأ دعوات خاصة برحلة الميت إلى مثواه الأخير, فيها تذكير بعبارة كان موسى عليه السلام يرددها كلما انتقل تابوت العهد من مكان إلى آخر في رحلة التيه بصحراء سيناء ثم بشرق نهر الأردن إلى أن توفي موسى هناك على جبل "نابو".
يجب تأخير خروج الميت لما بعد وقت صلاة الـ "شِمَاع : اسْمَع" كي لا تضيع الصلاة على المشيعين. وهناك من يجيز الخروج وقت صلاة "شماع" الليلية, لامتداد وقتها. وتمنع النساء من مرافقة الجنازة, وإذا التقت الجنازة بحفل عُرْس تمر الجنازة أولا, وإذا تصادف عُرس مع عزاء في المعبد يخرج العُرس أولا ثم العزاء بعده.
ويحذر من الخروج من بيت المتوفى قبل حَمَلة تابوت الميت, ويعلل ذلك بأن الأرواح تهيم في الدنيا محاولة تسمّع قرارات السماء, ويمكن للأرواح أن تؤثر في نفوس بعض الأحياء وقد تعرضهم للموت!
ومن الواجب ترك الأعمال لمرافقة الجنازة, ويجب على السائرين بالميت التوقف كل مسافة أربعة أذرع قبل القبر بقليل, اعتقادًا أن ذلك من شأنه طرد الأرواح النجسة التي تتربص تريد مسّ الميت, وسبب التوقف ثم استئناف المسير هو محاولة منع هذه الأرواح من دخولها القبر مع جسد الميت, فكلما توقف السائرون بالميت ابتعدت تلك الأرواح.
يوضع تابوت الدفن على الأرض بمجرد الوصول إلى مكان القبر, ويأتي عشرة رجال من المرافقين للجنازة, يُختارون من الأتقياء والعجائز, ويبدأون طوافًا حول التابوت متماسكو الأيدي يرددون بعض الأدعية الخاصة بهذا الطواف, يتناول أكبرهم سنًا بعد ذلك, ثلاث قطع إحداهما من ذهب, والثانية من فضّة, والثالثة من نحاس, ويردد : مبارك هو, مبارك هو, مبارك هو, ويواصل بعد الثالثة : إلهنا أغفر بفضلك لهذا العبد الفقير فلان بن فلان بن إبراهيم, بن يعقوب, رأوبين شمعون لاوي ويهودا يساكر زبولون يوسف وبنيامين ونفتالي جاد وأشير.
يُرقد الميت في تابوته على ظهره ووجهه لأعلى, ويغطى التابوت بلوح خشبي ولا يهال التراب على جسد الميت لأن في ذلك إهانة له. ولابد من ترك فتحة في أرضية التابوت بحيث يكون جزء من جسد الميت ملاصقًا للتراب مباشرة. ولا يدفن ميتان, إلى جوار بعضهما, في قبر واحد, ولا ميت إلى جوار عظام ميت آخر, ولا توضع عظام ميت إلى جوار عظام ميت آخر. ويجوز دفن الرجل مع ابنته الصغيرة. والمرأة مع ابنها الصغير. والقاعدة في ذلك أن كل من يحلّ نومه مع الشخص حال حياته يحلّ دفنه معه. ولا يدفن الشرير إلى جوار الصدِّيق, بل لا يدفن شرير مبتديء إلى جوار شرير عات. ولا صدِّيق متوسط إلى جوار تقيّ ورِع . ولا يدفن ميت إلى جوار ميت آخر كانت بينهما عداوة إلا إذا مرّ على موت الأول ما يزيد على عام! ولا يجوز الدفن في مقابر مدينة أخرى إذا كان في مدينة المتوفى مقابر؛ لأن موتى مدينتة يغضبون من ذلك, ويُعدون هذا التصرف احتقارًا لهم . يجوز نقل الميت إلى "إسرائيل" للدفن. وإذا أوصى شخص بأن يدفن في منزله وليس في المقابر يجب تنفيذ الوصية. الدفن في "إسرائيل" من الوصايا واجبة التنفيذ, حتى لو أوصى بها شرير يجب تنفيذها. وإذا مرّ وقت طويل يجب نقل عظامه إلى إسرائيل. لكن لا يجبر الورثة على فعل ذلك. عدم الاهتمام بالقبر, أو ضياع مكانه, أو دفن الخاصة في غير المقابر التي أعدت لهم - يُعد إهانة بالغة لصاحبه. ويوصى بالإسراع بدفن الميت بعد حفر القبر. ولا يترك القبر مفتوحًا لليوم التالي؛ لأن ذلك قد يتسبب في وفاة آخرين خلال ستة عشر يومًا.! يحرم تأجيل الدفن إلا لأسباب محددة, كتجهيز التابوت, والكفن, أو حضور الأقارب, وما إلى ذلك . وكل من يؤجل الدفن بدون أسباب يكون مخالفًا لوصية "لا تؤجل". وينطبق تحريم تأجيل الدفن حتى على المخطئين أو المجرمين الذين تطبق في حقهم الشريعة بجزاء القتل والتعليق (تعليق الجثة, قديمًا, على جزع شجرة لما بعد غروب الشمس مباشرة). وتعجيل الدفن ممدوح إلا دفن الأب أوالأم فالتعجيل فمذموم؛ لأن تأبينهم وكثرة البكاء والنواح عليهما واجب. إذا مات أكثر من شخص في المدينة الواحدة يكون الدفن حسب ترتيب الوفاة. لكن يلاحظ أن يُدفن المُعلم قبل التلميذ, والمرأة قبل الرجل, إلا إذا كان الرجل "كاهنًا أكبر", فيقدم الكاهن.
ذكرنا سابقًا أن عذاب القبر لم يرد له ذكر في مصادر اليهودية, غير في القبالا (التفسير الباطني للنصوص المقدسة), ذكر فيه أن ملك الموت يقف على قبر الميت ويسأله عن اسمه, ويضربه على يديه, ينسى الأشرار أسماءهم بعد الموت, لذلك يحرص بعض اليهود على الاحتفاظ بتميمة أو حرز يتقي به نسيان اسمه إذا مات! فإذا لم يقل الميت اسمه لملك الموت يقطِّع حينئذ أطرافه وينصرف ثم يأتي مساعدوه ويعيدوا له أطرافه المقطعة إلى جسده لكي يستعد لجولة أخرى من العذاب, وهكذا بحسب جرمه.
يعتقد بعض الباحثين أن الاعتقاد في "ضربات القبر" ظهر في حقبة الجاءونيم (كبار مفسرو الشريعة في القرن السادس الميلادي, وهى حقبة استمرت ربما لأكثر من 500 سنة), بتأثير الإسلام.
يقرأ زوار الموتى لقبور أقربائهم – في اليهودية – أدعية تبدأ بالحروف الأولى لأسمائهم كوقاية لهم من ضربات القبر. والحفاظ على "قواعد السبت" تقي من ضربات القبر, كذلك يعفى من تلك الضربات من يدفن في نطاق السبت.
ومن العادات المستحدثة لزيارة القبور تناول بعذ الحجارة التي اعدّت لهذا الغرض وجهزت له ووضعها فوق شاهد القبر كدليل على الزيارة حتى إذا انتهت الحجارة الموضوعة في مستودع أعيدت إليه مرة أخرى لإعادة الكرة من جديد.
ولدفن الموتى وزيارة القبور أحكام أخرى سوف نتناولها في منشور قادم بإذن الله.
د. سامي الإمام
أستاذ الديانة اليهودية/كلية اللغات والترجمة/جامعة الأزهـر.
وزيادة في ترسيخ هذا المفهوم وصفت أرض إٍسرائيل بأنها "أرض تأكل سكانها" ويقصد بهذه العبارة أن هذه الأرض تُعجِّل بتحليل أجساد الموتى المدفونين بها, وبذلك تجد أرواحهم راحة حقيقية في مستقرها العلوي! بأسرع ما يمكن. ويوصى بعض الموتى قبل وفاتهم بوضع الجير الحي على أجسادهم بعد الموت بغرض استعجال تحلل الجسد, والمستقر الأخير.
تبقى نصوص في كتاب (العهد القديم) تتضمن تلميحات إلى أن أرواح الموتى كان بالإمكان استحضارها عن طريق السحر, ليس هذا وحسب بل كان بمقدورها أن تؤثر بحسب المعتقدات آنذاك في أقدار الأحياء وحظوظهم كما كانت تتنبأ بمصائرهم؛ فهذا "شاءول" على سبيل المثال يطلب من ساحرة كانت في قرية "عين دور", استحضار روح النبيّ "صموئيل" الذي كان راقدًا في قبره في قرية "الرامة", ليسأله النصح في شأن معركة فاصلة كانت – في ذلك الزمن القديم – بين جنوده وجنود الفلسطينيين, وقد تمكنت الساحرة من استحضار روح النبي صموئيل, ولما حضرت تلك الروح قامت بتوبيخ "شاءول", الملك, وأخبرته بانتصار الفلسطينيين في هذه المعركة, وأنه يجب عليه أن يسلِّم المُلك لداود (سفر صموئيل الأول 28 : 3 - 19).
وكان المعتقد أن أرواح الموتى من مصادر الشرّ والضُرّ الذي يصيب الأحياء لذلك دأبوا على التقنّع وتسويد الوجه وتشويهه ولبس الرث من الثياب كي لا تتعرّف أرواح الموتى على الشخصيات وتصيبهم بالضرر. لذا كان تعليل صراخ المحدِّين وعويلهم هو دفع أرواح الموتى بعيدًا عن مناطق الأحياء إتقاء لشرّها. لذلك اعتقد الناس أن تقديم القرابين للموتى وكذا وضع وسائل إعاشة, وحتى أدوات للزينة, بل وأسلحة إلى جوار جسد الميت في قبره, اعتقدوا أن هذه القرابين تقيهم ضرر هذه الأرواح ووصل الأمر, في بعض المناطق, إلى زيارة القبور بغرض شفاعة الميت, او استكشاف الغيب.
وعلى الرغم من أن التوراة تتضمن نصوصًا صريحة لمنع تلك المعتقدات, وتصدى لها الأتقياء من الملوك, إلا أنها ظلت كظاهرة شائعة لكن لم تصل إلى درجة عبادة الموتى كما كان لدى شعوب أخرى في منطقة الشرق الأدنى القديمة.
ولا ريب أن بني إسرائيل تعلّموا من المصريين في حقبة وجودهم على أرض مصر قديمًا (حوالي 400 سنة), تعلموا العناية الفائقة بأمور الموتى سواءً جسديًا في القبر أو روحيًا بالاعتقاد في حياة أخرى بعد الممات في الجهة الغربية من الكون! تأثرًا بغروب الشمس واختفائها في جهة الغرب فاعتقدوا أن الروح كذلك تسكن عالمًا يقع جهة الغرب. فمن صور الاهتمام بما بعد الموت نجد "أبشالوم" وقد صنع, في حياته, شاهدّا ليوضع بعد مماته على قبره, دوَّن عليه عبارة "ليس لي ابن يذكر اسمي", وهو ما يؤكد ما سبق ذكره من تأثرهم بالمعتقدات المصرية القديمة, وأن الميت في حاجة إلى من يهتم بدفنه وحسن ذكره بعد الممات.
وتأتي فكرة البعث بعد الممات باهتة في بعض أسفار "العهد القديم" لكننا نكتشف أن البعث خاص ببني إسرائيل فقط دون العالمين !! وكأن عنصريّتهم تستمر بينهم وبين بقية البشر حتى بعد الممات؟!
وقد تأثرت بعض فرق اليهود كالقرائين, بالإسلام, فنجد من بين معتقداتها الإيمان بيوم الدين, اليوم الآخر, يوم البعث والنشور؛ أي إعادة الموتى إلى الحياة, وإعادة أرواحهم إليهم بعد إخراجهم من قبورهم وعودة أجسامهم إلى ما كانت عليه,سواءً أكانت في بطون الأرض أو في قاع البحار, لمواجهة الحساب, استنادًا إلى نصّ سفر النبي "دانيال" : كثير من النائمين في الثرى يستيقظون, منهم إلى النعيم الأبدي, ومنهم إلى الجحيم الأزلي".
رحلة الغُسل الشاقة:
تمر عملية تغسيل الميت بمراحل عدة؛ حيث تغسل أجزاء الجسد بترتيب معين, وتستخدم أوان عدة, كما يتخلل مراحل الغسل قراءة دعوات للرب والثناء عليه وطلب الرحمة للميت. ثم يوضع على خشبة الغُسل بعد غسلها جيدًا, وتقال بعض الأدعية الخاصة بعملية التغسيل, ثم تُصب مياه فاترة على جسد الميت, ويبتدأ بغسل الرأس, سبع مرات بسبع أوان, الأولى بالماء, والثانية بالصودا, والثالثة بالصابون, وهنا يقرأ دعاء معين, أما المرتان الرابعة والخامسة فبالماء فقط, وأما السادسة فبأوراق الآس (نبات عطري), وتقال بعض الأدعية, وفي المرة السابعة يغسل الرأس بالماء البارد. يأتي بعد ذلك في ترتيب الغسل الذقن حيث يجب غسلها بثلاث أوان ويقرن الغسل بدعاء معين, فمنطقة القلب والبطن والأكتاف, التي تغسل بآنيتين, ثم الذراع الأيمن من الأمام, يليه الذراع الأيسر من الخلف, ويغسلان بآنيتين, ويبتدأ بغسل الذراع الأيمن من أعلى, أما الذراع الأيسر فيبتدأ بغسله من أسفل, ويقرأ دعاء معين. ثم يأتي دور الجزع, فمنطقة أعلى الفخذين, بإناء آخر, فالعورات من الأمام ومن الخلف بإناء ثالث ويكون الغسل بالصابون, ويقرأ دعاء معين. وأخيرًا يأتي دور الأقدام والوجه والفم والأنف.
وعقب الانتهاء من غسل الميت بهذا الترتيب يُرش على جسد الميت جميعه مياه غزيرة. وهناك حالات تُوجب تطهير الميت بقليل من الخمر!, كالذي يموت بسبب التعذيب الشديد, والعلة هى احتمال أن يكون تغوَّط في ثيابه, كما يوصى بوضع هذه الثياب مع الميت في تابوت الدفن.
ومن الأمور المهمة الواجب مراعاتها أثناء الغسل عدم تناول الأدوات من يد المغسِّلين بل لابد من وضعها على الأرض وكلُ في دوره يأخذها من على الأرض, كما يجب عدم إقلاب لوح الغسل على الميت خشية أن يموت شخص آخر خلال سبعة أيام!!
يغطى الجسد بعد ذلك بلباس داخلي, سروال في جزئه السفلي, ولباس وعمامة في جزئه العلوي, ثم يلف رأسه ووجهه, وفوق ذلك كله يُلّف على جسده شال الصلاة (الطلِّيت) الذي كان يتدثر به حين الصلاة أثناء حياته منذ بلوغه سنّ التكليف الشرعية (12 سنة للفتاة, و13 سنة للفتى), ولو كان لديه أكثر من شال توضع الشيلان الزائدة عن لفّ الجسد الى جواره في التابوت.
تجوز صناعة الكفن من الأنسجة المخلوطة, ويجب أن يكون الكفن بسيطًا حتى لو كان الميت من علية القوم, والمعتاد أن يتم الدفن في أردية بيضاء كالكتان. والرجل لا يكفن المرأة لكن المرأة تكفن الرجل! ويقصّ الشعر, وتقلّم الأظافر, ويحاط رأس الميت بالبيض المقلي بقشوره! قبل التكفين. ومما يجب على الابن إغماض عيني أبيه الميت.
يوضع الميت بعد تكفينه بالكيفية التي شرحناها فيما سبق, في تابوت الدفن, وتُقرأ دعوات معينة, ثم يغطى التابوت وتتلى أثناء تغطيته أدعية أخرى. ثم يُحمل التابوت إلى حيث الدفن بينما تقرأ دعوات خاصة برحلة الميت إلى مثواه الأخير, فيها تذكير بعبارة كان موسى عليه السلام يرددها كلما انتقل تابوت العهد من مكان إلى آخر في رحلة التيه بصحراء سيناء ثم بشرق نهر الأردن إلى أن توفي موسى هناك على جبل "نابو".
يجب تأخير خروج الميت لما بعد وقت صلاة الـ "شِمَاع : اسْمَع" كي لا تضيع الصلاة على المشيعين. وهناك من يجيز الخروج وقت صلاة "شماع" الليلية, لامتداد وقتها. وتمنع النساء من مرافقة الجنازة, وإذا التقت الجنازة بحفل عُرْس تمر الجنازة أولا, وإذا تصادف عُرس مع عزاء في المعبد يخرج العُرس أولا ثم العزاء بعده.
ويحذر من الخروج من بيت المتوفى قبل حَمَلة تابوت الميت, ويعلل ذلك بأن الأرواح تهيم في الدنيا محاولة تسمّع قرارات السماء, ويمكن للأرواح أن تؤثر في نفوس بعض الأحياء وقد تعرضهم للموت!
ومن الواجب ترك الأعمال لمرافقة الجنازة, ويجب على السائرين بالميت التوقف كل مسافة أربعة أذرع قبل القبر بقليل, اعتقادًا أن ذلك من شأنه طرد الأرواح النجسة التي تتربص تريد مسّ الميت, وسبب التوقف ثم استئناف المسير هو محاولة منع هذه الأرواح من دخولها القبر مع جسد الميت, فكلما توقف السائرون بالميت ابتعدت تلك الأرواح.
يوضع تابوت الدفن على الأرض بمجرد الوصول إلى مكان القبر, ويأتي عشرة رجال من المرافقين للجنازة, يُختارون من الأتقياء والعجائز, ويبدأون طوافًا حول التابوت متماسكو الأيدي يرددون بعض الأدعية الخاصة بهذا الطواف, يتناول أكبرهم سنًا بعد ذلك, ثلاث قطع إحداهما من ذهب, والثانية من فضّة, والثالثة من نحاس, ويردد : مبارك هو, مبارك هو, مبارك هو, ويواصل بعد الثالثة : إلهنا أغفر بفضلك لهذا العبد الفقير فلان بن فلان بن إبراهيم, بن يعقوب, رأوبين شمعون لاوي ويهودا يساكر زبولون يوسف وبنيامين ونفتالي جاد وأشير.
يُرقد الميت في تابوته على ظهره ووجهه لأعلى, ويغطى التابوت بلوح خشبي ولا يهال التراب على جسد الميت لأن في ذلك إهانة له. ولابد من ترك فتحة في أرضية التابوت بحيث يكون جزء من جسد الميت ملاصقًا للتراب مباشرة. ولا يدفن ميتان, إلى جوار بعضهما, في قبر واحد, ولا ميت إلى جوار عظام ميت آخر, ولا توضع عظام ميت إلى جوار عظام ميت آخر. ويجوز دفن الرجل مع ابنته الصغيرة. والمرأة مع ابنها الصغير. والقاعدة في ذلك أن كل من يحلّ نومه مع الشخص حال حياته يحلّ دفنه معه. ولا يدفن الشرير إلى جوار الصدِّيق, بل لا يدفن شرير مبتديء إلى جوار شرير عات. ولا صدِّيق متوسط إلى جوار تقيّ ورِع . ولا يدفن ميت إلى جوار ميت آخر كانت بينهما عداوة إلا إذا مرّ على موت الأول ما يزيد على عام! ولا يجوز الدفن في مقابر مدينة أخرى إذا كان في مدينة المتوفى مقابر؛ لأن موتى مدينتة يغضبون من ذلك, ويُعدون هذا التصرف احتقارًا لهم . يجوز نقل الميت إلى "إسرائيل" للدفن. وإذا أوصى شخص بأن يدفن في منزله وليس في المقابر يجب تنفيذ الوصية. الدفن في "إسرائيل" من الوصايا واجبة التنفيذ, حتى لو أوصى بها شرير يجب تنفيذها. وإذا مرّ وقت طويل يجب نقل عظامه إلى إسرائيل. لكن لا يجبر الورثة على فعل ذلك. عدم الاهتمام بالقبر, أو ضياع مكانه, أو دفن الخاصة في غير المقابر التي أعدت لهم - يُعد إهانة بالغة لصاحبه. ويوصى بالإسراع بدفن الميت بعد حفر القبر. ولا يترك القبر مفتوحًا لليوم التالي؛ لأن ذلك قد يتسبب في وفاة آخرين خلال ستة عشر يومًا.! يحرم تأجيل الدفن إلا لأسباب محددة, كتجهيز التابوت, والكفن, أو حضور الأقارب, وما إلى ذلك . وكل من يؤجل الدفن بدون أسباب يكون مخالفًا لوصية "لا تؤجل". وينطبق تحريم تأجيل الدفن حتى على المخطئين أو المجرمين الذين تطبق في حقهم الشريعة بجزاء القتل والتعليق (تعليق الجثة, قديمًا, على جزع شجرة لما بعد غروب الشمس مباشرة). وتعجيل الدفن ممدوح إلا دفن الأب أوالأم فالتعجيل فمذموم؛ لأن تأبينهم وكثرة البكاء والنواح عليهما واجب. إذا مات أكثر من شخص في المدينة الواحدة يكون الدفن حسب ترتيب الوفاة. لكن يلاحظ أن يُدفن المُعلم قبل التلميذ, والمرأة قبل الرجل, إلا إذا كان الرجل "كاهنًا أكبر", فيقدم الكاهن.
ذكرنا سابقًا أن عذاب القبر لم يرد له ذكر في مصادر اليهودية, غير في القبالا (التفسير الباطني للنصوص المقدسة), ذكر فيه أن ملك الموت يقف على قبر الميت ويسأله عن اسمه, ويضربه على يديه, ينسى الأشرار أسماءهم بعد الموت, لذلك يحرص بعض اليهود على الاحتفاظ بتميمة أو حرز يتقي به نسيان اسمه إذا مات! فإذا لم يقل الميت اسمه لملك الموت يقطِّع حينئذ أطرافه وينصرف ثم يأتي مساعدوه ويعيدوا له أطرافه المقطعة إلى جسده لكي يستعد لجولة أخرى من العذاب, وهكذا بحسب جرمه.
يعتقد بعض الباحثين أن الاعتقاد في "ضربات القبر" ظهر في حقبة الجاءونيم (كبار مفسرو الشريعة في القرن السادس الميلادي, وهى حقبة استمرت ربما لأكثر من 500 سنة), بتأثير الإسلام.
يقرأ زوار الموتى لقبور أقربائهم – في اليهودية – أدعية تبدأ بالحروف الأولى لأسمائهم كوقاية لهم من ضربات القبر. والحفاظ على "قواعد السبت" تقي من ضربات القبر, كذلك يعفى من تلك الضربات من يدفن في نطاق السبت.
ومن العادات المستحدثة لزيارة القبور تناول بعذ الحجارة التي اعدّت لهذا الغرض وجهزت له ووضعها فوق شاهد القبر كدليل على الزيارة حتى إذا انتهت الحجارة الموضوعة في مستودع أعيدت إليه مرة أخرى لإعادة الكرة من جديد.
ولدفن الموتى وزيارة القبور أحكام أخرى سوف نتناولها في منشور قادم بإذن الله.
د. سامي الإمام
أستاذ الديانة اليهودية/كلية اللغات والترجمة/جامعة الأزهـر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق