يسجل كتاب "الزوهار" الذي يتضمن منطلقات الفكر الصوفي اليهودي أن "باتيا" ابنة فرعون تجلس في هيكل مرتفع بجنة عدن, ويأتي إليها موسى كل يوم لزيارتها. فما الذي أحلها هذه المكانة الرفيعة؟
أدركت يوكابد؛ أم موسى, عليه السلام, أن الفرعون واتباعه المصريون سيلقون بوليدها في النهر ولذا وضعته في تابوت يحفظه وألقت هى به في النهر. ولما خرجت "باتيا" ابنة فرعون إلى شاطيء النهر شاهدت التابوت, وتناهى إلى مسامعها بكاء موسى, ورق قلبها له فأرادت أن تنقذه لكن التابوت راح يتهادى بعيدًا رويدًا رويدًا عن متناول يدها ولم يعد هناك احتمال لوصول يدها إليه, ومع ذلك أخذت تقدح فكرها ولم تيأس فمدت يدها إلى أقصى مدى ممكن إيمانًا منها بأن على الإنسان أن يقوم بعمل كل ما باستطاعته, أما الباقي فعلى الله يكون. وبالفعل حدثت المعجزة فمدت يدها في مشهد معجز وراتها تتطاول أمام عينيها إلى أن بلغت التابوت فأمسكت به وأنقذت موسى من الذهاب بعيدًا مع مياه النهر, ربته حتى أصبح هو منقذ بني إسرائيل ولأنها لم تيأس وقامت بكل ما استطاعت القيام به كوفئت بزيارة موسى لها كل يوم بالجنة.
جاء في سياق القصة أن الرب أرسل موسى إلى فرعون يأمره بإطلاق سراح بني إسرائيل من مصر وصاحب هذا الأمر عبارة "اذهب وأنا أكون مع فمك", يقول النور المقدس, في كتاب الزوهار: قال الرب لموسى: عليك فقط الذهاب وأنا سأكون مع فمك وأصنع لك معجزات فتنجح أمام فرعون عليك فقط قرار البدء بالذهاب والحديث وأن تصنع ما عليك فعله وعلى أن أكمل ما غاب عن حديثك!
يذكر أن "باتيا" هى التي أطلقت على موسى اسمه "موشيه", لأنها انتشلته من اليم. وهى التي تولت تربيته على الرغم من حكم فرعون وقراره بقتل جميع الأطفال الذكور العبريين, وهو الحكم الذي بسببه وُضع موسى في تابوت من الصفط. كانت "باتيا" ابنة فرعون – بحسب المدراش (تفاسير) متمردة على أبيها ولم تكن تعبد الأوثان على عكس جميع أفراد بيت الفرعون!.
جاء اسم ابنة فرعون في كتاب "العهد القديم" في سفر أخبار الأيام الأول (4 : 18), في الموضع نفسه الذي ذكر فيه كزوجة "ميرد" الذي تحدد التفاسير أنه هو "كالب بن يوفنا".
جاء في تفسير الخروج, الكبير مدحًا في باتيا "وهكذا يكون فضل الإحسان", فعلى الرغم من وجود أسماء عدة لموسى لم يحدد له اسم في كل التوراة غير الذي دعته به باتيا ابنة فرعون, وحتى الله ذاته لم يدعوه باسم آخر. يذكر أن باتيا ابنة فرعون هى الأميرة المصرية التي تبنت موسى كابن لها.
كانت باتيا – كما ذكرنا سابقًا – تتميز بروح التمرد وكانت معارضة لقرارات ابيها الفرعون وحكمه بقتل ابناء العبريين الذكور, وأنقذت موسى من النهر واعتنت بتربيته على الرغم من علمها بأنه طفل عبري بقولها "من أبناء العبريين" وهو ما يؤكد على روحها المتمردة. وهناك تشابه كبير بين باتيا والإلهة المصرية "تارموتس" وهو ما يرد في كتابات المؤرخ اليهودي "يوسف بن متتياهو" في تفسير النص التوراتي.
كان المصريون يتعاملون معها بصفتها إلاهة وكانت إلهة النماء والخصوبة وتميزت بالمكر والدهاء كدهاء الحيات, وسميت أيضًا بالمرضعة. وتوصف ترموتس كامرأة لها ذيل حية تجسد المكر والحيلة النسائية. وهى صفات قيل إنها تتطابق مع صفات باتيا ابنة فرعون متبنية موسى. يذكر المدراش أنها أرضعت موسى على عكس سفر الخروج الذي يذكر أنها لم ترضعه.
يتساءل البعض كيف يكون لابنة فرعون اسمًا عبريًا حيث باتيا (בתיה) يعني (بت ياه = بنت يهوه = بنت الرب)؟
وكيف ضمن لها أن تدخل جنة عدن على الرغم من أنها ليست من بنات إسرائيل؟
أجاب الحاخامات على ذلك بأن باتيا هو كنية أطلقت عليها بفضل صنيعها المبارك تجاه موسى. أما ما ذكر في سفر الخروج من أنها ابنة فرعون فللتأكيد على ان الخلاص جاء من بيت العدو. في حين يؤكد سفر أخبار الأيام الأول على أنها اندمجت مع العبريين ولذلك أطلق عليها اسم عبري.
ويؤكد العلامة اليهودي موسى بن ميمون على أن الخيرين في العالم من غير بني إسرائيل لهم هم أيضًا نصيبًا في العالم الآخر.
تذكر دكتور "يعيل لفين" ان باتيا كانت قد يئست من تصرفات أبيها الفرعون ولذا تهودت باتباعها إله موسى بل أكثر من ذلك يرجح أنها تلقت وحيًا إلهيًا ونبوءة بناء عليها تزوجت من كالب بن يوفنا (أحد أصحاب موسى).
وتذكر المصادر المدراشية أن باتيا ابنة فرعون و"سارح ابنة أشير", حفيدة يعقوب, عليهم السلام, هما ضمن قائمة أسماء الداخلين إلى جنة عدن بأعمالهم في حياتهم!
وهناك سببان يجعلان باتيا ممن ضمن حياة أبدية :
الأول: انقاذها موسى وتربيته.
الثاني: تهودها.
وعدت باتيا لقاء ما قامت به من ضمن النساء الفضليات اللاتي جاء وصفهن في سفر الأمثال والتي تتخذ كنموذج للمرأة الصالحة التي يجب على الإنسان أن يتمسك بها وبصفاتها وأخلاقها حين البحث عن زيجة, حيث جاء:
(من يَعثُر على المرأَة الفاضلة؟ إِن قيمتها تفوق اللّآليء. بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى ما هو نفيس. تسبغ عليه الْخير دون الشّرّ كل أَيام حياتها. تلْتمس صُوفاً وكتّاناً وتشتغل بيدين راضيتين، فتكون كسفن التاجر الّتي تجلب طعامها من بلاد نائية. تنهض واللّيل ما برح مخيِّماً، لتعدّ طعاماً لأَهل بيتها، وتدبّر أَعمال جواريها تتفحّص حقْلاً وتشتريه، ومن مكسب يديها تغرس كرماً تُنطِّق حقويها بالْقوّة وتشَدّد ذراعيها. وتدرك أن تجارتها رابحة، ولا ينطفيء سراجها في اللّيل. تقبض بيديها على المغزل وتمسك كفّاها بالْفلكة. تبسطُ كفّيها للْفقير وتمدّ يديها لإغاثة الْبائس. لا تخشى على أَهل بيتها من الثَّلْج، لأنّ جميعهم يرتدون الْحلل القرمزيّة. تصنع لنفسها أَغطيةً موشّاة، وثيابها محاكة من كتّان وأُرجوان. زوجها معروف في مجالس بوّابات الْمدينة، حيث يجلس بين وجهاء الْبلاد. تصنع أَقمصة كتَّانيّة وتبيعها، وتزوِد التاجر الْكنعانيّ بمناطق. كساؤها الْعزّة والشّرف، وتبتهج بالأَيام الْمقبلة. ينطق فمها بالحكمة، وفي لسانها سُنّة المعروف. ترعى بعناية شؤون أهل بيتها، ولاَ تأْكل خبز الكسل. يقوم أبناؤها ويغبطُونها، ويطْريها زوجها أَيضاً قائِلا: نساء كثيرات قمن بأَعمال جليلة، ولكنّك تفوَّقت علَيهنّ جميعاً. الْحُسن غشّ والجَمال باطل، أما المرأة الْمُتّقيّة الرب فهي الّتي تُمدح. أعطُوها من ثَمر يديها، ولتكن أَعمالُها مصدر الثّناء عليها).
د. سامي الإمام
أستاذ الديانة اليهودية
كلية اللغات والترجمة/جامعة الأزهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق