سوف نتقيد بما هو متاح في المصادر اليهودية من معلومات عن (ملكة سبأ), ودون الدخول في تفاصيل كثيرة مكانها الأبحاث العلمية وما يمكن الاستناد إليه من براهين وأدلة على اختلاف أنواعها.
ولن أحاول فكّ لغز تلك الملكة وما يتصل بها, أو قصة إسلامها ولكن سأتناول سيرتها من وجهة نظر المصادر اليهودية سواء أكانت تلك المصادر الرئيسية ككتاب "العهد القديم", أم تلك الملحقات التفسيرية المشهورة؛ المِشْنَا والتلمود, أم غير المشهورة كالمدراش أي التفاسير التي قد تتضمن خروجًا عن المألوف في سيرتها.
فكتاب العهد القديم ذكرها كملكة سبأ ولم يسمها أو يحدد مكان انطلاقها بالضبط. وكانت تلك الملكة سمعت بنبأ حكمة سليمان ودفعها فضولها إلى الذهاب إليه في محل مُلكه لاختبار تلك الحكمة التي بلغت أطراف الأرض آنذاك. قررت القيام بالرحلة الشاقة على ظهور جمال محمّلة بهداياها من الذهب والفضة, والأحجار الكريمة, والأبخرة والأطياب التي قيل إن أورشليم لم تر مثلها في تالريخها السابق قط! وهذا هو النص الرئيسي في "العهد القديم" الذي يتناول سيرة الملكة الغامضة!
(عندما بلغت أَخبار سليمان وإِعلائه لاسم الرب مسامع ملكة سَبأَ، قدمت لتلقي عليه أَسئلة عسيرة، فوصلت أُورشليم في موكب عظيم جداً، وجمالٍ محمّلة بأطياب وذهب وفير وحجارةٍ كريمةٍ، وأسرّت إليه بكل ما في نفسها. فأَجاب سلَيمان عن كل أَسئلتها، من غير أَن يعجز عن شرح شيء. ولمّا رأَت ملكة سبأَ كل حكمة سليمان، وشاهدت القَصر الّذي شيّده، وما يقدّم على مائدته من طعام، ومجلس رجال دولته، وموقف خدّامه وملاَبسهم، وسقاته وقرابينه الَّتي كان يُقَرِّبها في بيت الرب، اعتراها الذُّهول الْعميق، فقالت للْملك:
(إِنّ الأَخبار الَّتي بلغتني في أَرضي عن أُمورك وحكمتك هي حقّاً صحيحة. ولم أُصدّقها في باديء الأَمر حتى جئت وشاهدت، فوجدت أن ما بلغني لا يجاوز نصف الحقيقة، فقد رأيت أَنّ حكمتك وصلاحك يزيدان عمّا سمعته من أَخبارك. فطُوبى لرجالك وطُوبى لخدَّامك الْماثلين دائماً في حضرتك يسمعون حكمتك. فليتبارك الرب إلهك الّذي سرّ بك، وأجلسك على عرش إسرائيل، لأنه بفضل محبّته الأبديّة لإِسرائيل قد أَقامك ملكاً لتجري الْعدل والْبرَّ. وأَهدت الْملك مئة وعشرين وزْنةً (نحو أَربعة آلاف وثَلاث مئة وعشرين كيلُو جراماً) مِن الذّهب وأَطياباً كثيرة وحجارة كريمةً، فكانت التّوابل الَّتي أَهْدتها ملكة سَبأَ للملك سليمان من الوفرة بحيث لم يجلب مثلها في ما بعد).
لم يقتصر عطاء الملكة وكرمها لسليمان عند هذا الحد بل أرسلت إليه ذهبًا وأخشاب الصندل وحجارة كريمة, وكل ذلك استخدم في صناعة الهيكل وزخرفاته وآنية الخدمة وتقديم القرابين للرب.
وفي مقابل ذلك قدّم سليمان لملكة سبأ كل ما رغبت فيه وأكثر من فرط كرمه وجوده وما كان من الواجب ان يقوم بها تجاه كرمها وذكائها في هذا المقام.
تذكر المصادر أن جلّ العظمة والأبهة في عرش سليمان كان يرجع الفضل فيه لزيارة تلك الملكة الغامضة, وأن مملكته بدأت منذئذ بالازدهار والثراء, وذاع سيطه في أرجاء الدنيا كملك حكيم واسع المعرفة والفهم.
ويفهم من أخبار زيارة ملكة سبأ لمُلك سليمان أنها شاهدت عالمًا جديدًا هناك لم تعهده من قبل في حسن معاملته لرعيته وعدله ودقة إدارته لمملكته وتعلمت أمورًا كثيرة لم تكن تعرفها من قبل.
لكن ماذا عن الأسئلة أو الألغاز والأحاجي التي جاءت الملكة لتختبر سليمان بها؟
جاء في التفاسير أن ملكة سبأ إنما أرادت من مواجهتها لسليمان أن تختبره بألغاز عسيرة الحل لترى هل تبلغ حكمته إلى الوصول لفكها؟
اللغز الأول : ماهي السبع التي تخرج, و التسع التي تدخل، والإثنان اللذان يقدمان شرابا, و الواحد الذي يشرب؟
أجاب سليمان : السبع التي تخرج هي أيام الحيض والتسع التي تدخل هي شهور الحمل التسعة، والإثنان اللذان يقدمان شرابًا هما الثديان والواحد الذي يشرب هو الرضيع!
اللغز الثاني: من هو الذي مواصفاته : أبوك هو أبي، وجدك هو زوجي، أنت إبني وأنا أختك؟
أجاب سليمان : إبنتا لوط (حيث أوردت التوراة أنهما سقتا أباهما خمرًا وضاجعتاه فحبلا منه وأنجبتا)!
اللغز الثالث : ما الشيء الذي يخرج كالغبار من الأرض، غذاءه الغبار، يُسكب كالمياه ويُضيء المنازل؟
أجاب سليمان: النافثا (هى مادة خام تستخدم في صناعة البنزين ومحروقات أخرى)!
اللغز الرابع : ما الشي الذي عندما يعيش لا يتحرك وعندما تقطع رأسه يتحرك؟
أجاب سليمان: السفينة في البحر (ربما في إشارة إلى حلّ حبل القيد بالميناء).
اللغز الخامس : ماهو الذي لم يولد بعد ولكنه أعطي حياة؟
أجاب سليمان : عجل الذهب
اللغز السادس : الميت عاش ويصلي والقبر يتحرك، من هو ؟
أجاب سليمان : الميت يونس وقبره الحوت. (أو السمكة كما هي مذكورة في التوراة).
وذُكر في التلمود أحاجي أخرى منها أن بلقيس حنيما رأت أن سليمان استطاع حل أحاجيها السابقة, قامت بجلب أطفال صغار يرتدون ملابس متماثلة وطلبت من سليمان أن يفرِّق بين الذكور والإناث, فطلب سليمان من خدمه أن يأتوه بثمار البندق ويلقوها أمام الأطفال, قام الذكور بجمعها وتعليقها تحت ثيابهم ولم يهتموا بكشف عوراتهم بينما قامت الإناث بتعليق ما تناولنه على أطراف ثيابهن الخارجية فعلم سليمان أيهم الذكور وأيهم الإناث لأن الإناث كنّ أكثر حرصًا من الذكور على الحشمة, وعدم كشف عوراتهن!
وذات مرّة كان سليمان مستريحًا ساعة الظهيرة في الظلّ تحت إحدى أشجار التين, وكان حارسان يبعدان الذباب عن وجهه, لكن نحلة غافلت الحراس وانقضت على أنف سليمان ولدغته لدغة جعلته يستيقظ من غفوته ويستشيط غضبًا, أمسك سليمان بالنحلة وكاد يقتلها, لكنها خاطبته بكلمات وقعت موقعًا حسنًا في نفس الملك, وطلبت منه أن يعفو عنها ويسامحها في مقابل أن تُسدِي إليه معروفًا يومًا ما! فأطلقها سليمان.
مرت الأيام وجاءت ملكة سبأ بأحاجي وألغاز صعبة وأرادت أن تختبر سليمان بها ومما طلبته منه أن يميز بين باقة زهور طبيعية واحدة من بين عشر, وضعت أمامه!
وقع سليمان في حيرة واضطراب؛ كيف يمكنه إخراج باقة الزهور الطبيعية من بين عشرة تسع منهن صناعيات وقد اتقن الصانع صناعتهن وكان من الصعب معرفة أي باقة بينهم هى الطبيعية؟!
تذكر سليمان تلك النحلة التي عفا عنها بعد أن وعدته بأن تسدي إليه معروفًا يومًا ما, واستدعاها وكلمها عن محنته فاتفقت معه على ان تتولى هذ المهمة وتقف على الباقة الطبيعية من بين العشر. وبذلك تمكّن سليمان من معرفة الباقة الطبيعية بفضل هذا المخلوق الصغير, وظل سرّ معرفته الباقة مكتومًا بينه وبين تلك النحلة الصغيرة التي لم يلحظها أحد حين وقفت على الباقة الطبيعية وغادرت المكان!!
ولا شكّ أن تلك الحكايات وراءها حِكَم على الإنسان الذكي أن يتحراها ويعتمدها في الحياة.
د. سامي الإمام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق