إكمالا لموضوع "الفلسفة والدين اليهودي" نقول:
علية الله عند الفيلسوف اليهودي "فيلون" (بداية القرن الأول الميلادي), نوعان : مطلقة ونسبية, فأما المطلقة فهو أنه الخالق من العدم, حيث إن الأرواح خلو من المادة, ولدها الله كما يلد العقل أفكاره, وأما النسبية فهو أنه الصانع الذي خلق الأشياء ولم تكن من قبل, فالعالم المحسوس نتيجة تنظيم الله لمادة سابقة, أو نتيجة فعل وسطاء بين الله والمادة كما يقول أفلاطون, ويعلل ذلك بأن الخلق صادر عن قدرة الله وخيريته, فلا يخلق الله من الموجودات إلا ما كان كفيلا بقبول هذه الخيرية, وهو قد خلق الإنسان فتكفل بجزئه النطقي, ووكل إلى وسطائه صنع الجزء الفاني منه, وعلى ذلك جاء الإنسان مزيجًا من الخير والشر, والله منزّه عن الشر", ومبدأ الشر موجود في غيره.
وليس الشر إلا الشر الخلقي, ولذلك فبقية المخلوقات من صنع الله لذا لا تعرف هذا الشرّ.
وم الناحية الروحية عليّة الله مباشرة وغير مباشرة, ولابد من الوسطاء أيضًا بين الله العلي والإنسان العاجز, حيث إن النفس ليس بوسعها بلوغ المرتبة الإلهية كما تهوى ودفعة واحدة, ولكن لابد لها من التدرج في الصعود, ولذا قال الفلاسفة بالوسطاء وسموهم آلهة وأبطالا, ولكن موسى سماهم ملائكة, بمعنى أنهم رسل يبلغون أوامر الله إلى الأبناء, ويحملون صلوات الأبناء إلى الله, ويتقدمهم اللوغوس, أو الكلمة, وهو آدم الأول, أي مثال الإنسان أو الإنسان العلى, ابن الله البكر, علمه الله كل الأسماء, ولكنه لما هبط إلى الأرض أصابه النسيان, فتنازعه نفسه إلى المعرفة, والمعرفة درجات, أبسطها النظر إلى مصنوعات الله, وأوسطها ترقي سلّم الوسطاء, وأعلاها إدراك كلمة الله, وأكملها إدراك الله ذاته. ولابد للصعود من التطهّر من المحسوسات بالزهد, ويبدا الصعود بالشكّ في العلم الحسّي, وإذ يشعر الإنسان بعجزه لا يعود له سوى الله والاتجاه إليه.
وظل اليهود بعد فيلون بمئات السنين لا فلسفة لهم لأن الجمود كان صفتهم الأصلية في التفكير بعامة لانه تفكير مجتمع مغلق يسمّى "الجيتو" (حي اليهود أو حارتهم). ولذا كان اليهود دائمًا مترجمين وناقلين ولقد أخذوا الفلسفة الإسلامية فلم يطوروها, كما لم يطوروا الفلسفة الأغريقية ولا لفلسفات الأوربية الحديثة وكانوا دائمًا ماديين. وقد انكر الفيلسوف "كانط" لهذا السبب أن تكون لليهود اتجاهات روحانية وقال إنهم معنيون بالماديات والأخلاق عندهم أوامر صادرة من سيد إلى مسود, وديانتهم لا مكان فيها للخلود, ولم يعتبرها ديانة ووصفها بانها عقيدة سياسية وقومية, ووصف المسيحانية التي تمتزج بها بأنها طموح قومي إلى حياة أفضل لشعب يعيش في الشتات أو المنفى.
ولم ينكر اليهود على "كانط" مقالته, ويتعجب البعض لذلك عن سبب مشايعة كثير من مفكريهم للكانطية من أمثال موسى مندلسون, وماركوس هيرتزوهيرمان كوهين, وغيرهم, وربما كان السبب هو أن اليهود دائمًا يلتصقون بالمذاهب الجديدة ويحاولون تفسير اليهودية في ضوئها وقد رأوا في ربط كانط الأخلاق بالدين, وقوله بالواجب وهو مقولة دينية وليس بالسعادة او بالخير وهما مقولتان فلسفيتان أغريقيتان, عودة إلى التوراة, ومن ثم قامت الاستنارة اليهودية التي عرفت باسم اليهودية الليبرالية على محاولة صياغة اليهودية نفس الصياغة الكانطية بجعلها ديانة مقبولة عقليًا وعالميًا.
وحاول اليهود تبنّي الهيجلية (نسبة إلى الفيلسوف هيجل) ودفعهم إلى ذلك ان صاحبها أضفى بعدًا دينيًا على التاريخ ولكنه انتقد اليهودية بوصفها ديانة باعدت بين الله والإنسان بأن جعلت الله فوق الإنسان وبذا يستحيل التواصل بين الإنسان والله وتتحول المحبة بينهما إلى عبودية يزكيها الخوف من الله غير الإنسان, وتكون الطاعة هى معيار الإيمان, والثواب هو جزاؤها, وبذلك تكون اليهودية ديانة عبيد وعصاة, الأخلاق فيها زواجر ونواه.
المرجع : الموسوعة النقديّة للفلسفة اليهوديّة, الدكتور/عبد المنعم الحفني, دار المسيرة بيروت, 1980.
*******
د. سامي الإمام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق