يرجع معنى كلمة فلسفة, وبالعبرية فيلوسوفيا "פילוסופיה" إلى اللفظ اليوناني " φιλοσοφία" الذي لا أعرف نطقه الصحيح في لغته. أمّا معناه فكما تذكر المراجع المعنية بالفلسفة فهو "محبة الحكمة", و"طلب المعرفة", والبحث عن الحقيقة".
وهى البحث عن الأسئلة الأساسية التي تطرحها المعرفة الإنسانية؛ كالوجود والكون والنفس, والمنطق والأخلاق, واخير, والشرّ وفي تعريف آخر للفلسفة هى: البحث بتأمل الأشياء وجعل حب الحكمة هو البحث عن الحقيقة وجعل الحكمة هى المعرفة القائمة على التأمل, وهي السير في طريق الحكمة دون امتلاكها وربما هذا هو ما يبرّر لماذا كان موضوعها دائمًا ينصّب على طرح أسئلة مفتوحة دون الإجابة عليها إجابات نهائية كقوانين العلم. فقد قدّم العلم معارف يقينية تفرض نفسها, أما الفلسفة فلم تنجح في ذلك فليس فيها إجماع يمكن بمقتضاه الوثوق في معرفة نهائية بموضوعاتها.وعلى ذلك فالعمل بالفلسفة يعني السير في طريقها, وطرح الأسئلة فيها أهم من تلقي الأجوبة لأن كل جواب فيها يصبح سؤلا جديدًا!
يعد فيلون السكندري, الذي عاش بالأسكندرية في حدود نهاية القرن الأول قبل الميلاد وبداية القرن الأول الميلادي من أشهر فلاسفة اليهود لكنه كان مقلدًا للفلسفة اليونانية.
من أعماله شرح التوراة باليونانية بهدف الإشارة إلى أن في التوراة فلسفة أقدم من فلسفة اليونان وأسمى. وعمد إلى خلط شروحه الدينية بالفلسفة ومقاربة بعض أقوال الفلاسفة بأقوال الأنبياء. وشرح التوراة شرحًا رمزيًا على غرار شرح الأفلاطونيين لقصص الميثولوجيا من أمثلة ذلك:
أن التوراة في جملتها تاريخ بني إسرائيل تصيبهم النعم إذا راعوا الشريعة وتلحقهم النقم إذا عصوها وتخلّوا عنها.وهى تمثّل قصة النفس مع الله, تدنو من الله بقدر ابتعادها عن الشهوة فتصيب رضاه, وتبتعد منه بقدر انغماسها في الشهوة فينزل سخطه.
وفي تأويله لسفر التكوين الذي يتضمن قصة الخلق التوراتية, ذهب إلى أن الله خلق العقل الخالص في عالم المُثل وهو الإنسان المعقول, ثم صنع على مثال هذا العقل عقلا أقرب إلى الأرض, هو آدم, وأعطاه الحسّ, وهو حواء. معونة ضرورية له, فطاوع العقلُ الحسّ وانقاد للّذة وهى الحيّة التي وسوست لحواء, فولدت النفس في ذاتها الكبرياء وهو قابيل, وجميع الشرور, وانتفى منها الخير, وهو هابيل, وماتت موتًا خلقيًا.
ومن تأويله أيضًا : تأويله البحر وعبوره - في قصة الخلق التوراتية – بأنه الحياة الحسية والنفس وقد انتصرت عليها وأجتازتها, وزواج إبراهيم عليه السلام بسارة بأنه رمز لاتحاد الإنسان الصالح بالفضيلة.
واستعمل "فيلون" الترميز العددي الذي اشتهر بين الفلاسفة الفيثاغوريين (نسبة إلى عالم الرياضيات والفيلسوف اليوناني فيثاغورس) فيقول:
إن الواحد (في الحساب) غير منقسم, فهو صورة العلّة الأولى, وموجد النفس والحياة, ولكن الاثنين منقسم, فهو مبدأ الشقاق وأخو الشرّ!
ومن آراء فيلون في اليهودية ما يجعل السلوك الصهيوني, واحتلال فلسطين, إجرامًا وخروجًا على الدين اليهودي وعنصريّة, بقوله إن اليهودي يهودي دينًا لا جنسيًا, ويجب عليه أن يكون مواطنًا في البلد الذي يقيم فيه, ونقل الوعود الإلهية الواردة في التوراة لإبراهيم ونسله من بعده, بخيرات دنيوية ومستقبل سعيد للإسرائيليين, إلى وعود روحية للنفس الصالحة وبسيادة الشريعة على العالم, وحتى التئام شمل اليهود في بلد واحد بعد توبتهم, يؤوله بمعنى اجتماع الفضائل في النفس وتناسقها بعدما تحدثه الرذيلة من تشتت.
وتصوّر فيلون للوجود مزيج من العقيدة اليهودية والفلسفة اليونانية فالله مفارق للعالم, خالق له, معنيّ به, لا يدركه العقل, وكل ما جاء بالتوراة من تشبيه يجب تأويله بحسب هذا الاعتبار, فالله ليس إله إسرائيل فحسب, وإنما هو الموجود حقًا, والعلّة الأولى, وأبو العالم ونفسه وروحه, وليس معنى أنه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنه إله هؤلاء الثلاثة وحدهم, وإنما هو إله العالم كله, وتأويل إبراهيم أنه العلم, وإسحاق أنه الطبيعة, ويعقوب أنه الزهد, والأسماء الثلاثة هى المصادر الثلاثة لمعرفة الله. ويسمي فيلون الله على منوال إبراهيم عليه السلام, فهو شمس الشموس, أو علّة الشمس, او الشمس المعقولة للشمس المحسوسة.
ومن أقواله التي تجاوز بها الفلاسفة الآخرين:
لو أراد الله ان يدين جميع الناس بلا رحمة لقضى عليهم بالهلاك, لأن أحدًا منهم لا يستطيع بنفسه أن يقوم بدوره كاملا في هذا السباق دون أن يسقط ولا عن غير قصد, ولذا يجمع الله الرحمة إلى العدالة لكي يخلص الناس, وهو لا يرحم بعد إدانة, ولكنه يدين بعد الرحمة , لأن الرحمة عنده سابقة على العدالة.
(يتبع)
د. سامي الإمام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق