الأحد، 25 نوفمبر 2018

الأجادا – وقصَّة (العشبة الشوكيَّة)!

بدأ في القرن الثامن عشر تخصيص اللفظ אגדה لمعنى القصص الخيالية غير الحقيقية, الأسطورية والمبالغ فيها.

والهاجادا في التلمود هى الشق الذي يتناول الأقوال والحكايات والقصص والحكَم وقصص الخيال والخرافات والأساطير أيضًا التي تعبّر عن مخزون الأدب الشعبي والتجارب المتوارثة عبر أجيال طويلة بخبرتها الكبيرة في الحياة. والأجادا بذلك تتميز عن الشق الآخر في التلمود المسمّى بالهلاخا (הֲלָכָה), والذي يتناول نصوصًا فقهية وشرعيَّة, خاصة بالفتوى في أمور الشريعة وما يتعلق بسلوك الناس على الجانب الشرعي والقانوني.
وتستخدم حكايات الأجادا في ربط الأجيال الناشئة بالجذور القديمة لليهود, والتمسك بالقيم التي سادت الجماعة عبر تاريخها في الشتات في أرجاء الأرض وكانت هى الرباط الوحيد, مع التزام الطقوس التعبدّية, الذي يمكن عدّه أوتارًا شادّة ونسيجًا ضامًا لأفرد هذه الجماعة, وكذلك توجيهها للناحية التي يريدها الممسكون بدفة توجيه فكر الأجيال المتعاقبة.
قصة العشبة الشوكيَّة (من الأجادا)
****************************
بعد إجلاء بني إسرائيل من أرضهم (حسب مصطلح النصّ) في أعقاب خراب بيت المقدس, كان من بينهم صبي صغير وأمه. عاشا سنوات عدّة في الشتات والغربة واشتاقا لبيتهم القديم. مرضت الأم من شدّة اشتياقها لنصيبها الذي تملكه في أرض الوطن, ومرة بعد مرة حين تناولت طعامًا حلوًا ما أدّى إلى مرضها وضعف جسدها وهاجمها مرض فقدان الوعي. 
قالت الأم لابنها: (أعرف نباتًا ينمو في جبال الكرمل اسمه (العشبة الشوكية/عُشبة الشوك). إذا تمكنت من عمل عصير من جذوره سأبرأ ولن افقد الوعي بعد ذلك.
خرج الصبي وأمه للسير والانتقال أيامًا كثيرة وتكبَّد مشقَّة كبيرة, وبعد مرور أشهر معدودة تمكنا من العودة إلى بيتهم الذي وجداه مهدّما وخرابًا. كان المشهد الذي تطلعت إليه أعينهما محزنًا وباعثًا على الكآبة, لأن نيران الحرب التي أتت على النباتات التي كانت حول البيت تركت خلفها بقايا الجذور المحروقة وبصمات النّار على التربة, ولم يتبق غير قليل من شجيرات (عشبة الشوك) القصيرة البائسة هى فقط ما كان يُزيِّن فناء البيت الخرب!.
نظر الصبي إلى تلك الشجيرات القصيرة من العشبة الشوكيّة وسأل أمه : 
ألهذا النبات الحقير اشتقت وأنت في الغربة؟ إن منظره حقير وأشواكه حادّة ومخيفة".
قالت الأم مبتسمة: (ولدي العزيز ستتعلّم وتعرف قيمة هذه الشجيرة بل وستحبها)!
أراد الصبي – بعد أن نالا قسطًا من الراحة بعد تعب الطريق, أن يكنس البيت من التراب لكي يمكنهما الإقامة فيه, لكنه لم يعثر على مكنسة ليتمم المهمة!
سأل الصبي أمه: كيف يمكنني تنظيف البيت بدون مكنسة؟ 
قامت الأم بحزم بعض فروع الشجيرات المنتشرة بالفناء, ووصلت أطرافهم بعصا طويلة وقدمتها للصبي. كنس حجرات البيت بهذه المكنسة التي صنعتها أمه من نبات العشبة الشوكية, وبذلك أمكن التخلّص من التربة والغبار والأقذار دون أن تترك أثرًا ..
أراد الصبي بعد ذلك أن يُسوِّر قطعة الأرض التي تحيط بالبيت لأن نيران الحرب محت السور الذي كان يفصل بين بيتهم وبيت الجيران. 
سأل أمه: كيف يمكنني أن أسوِّر بيتنا ولا يوجد أعمدة خشبية وألواح؟ 
احتطبت الأم فروعًا من شجيرة العشبة الشوكية وضفرتهم بعضهم ببعض حتى أصبحوا لفافة ضخمة متشابكة وقام الصبي بتسوير قطعة أرضهم بها من جوانبها الأربعة.
سأل الصبي أمه: يا أماه أنا عطشان والمياه التي بالبئر ملوّثة بالهوام والأقذار, كيف أشرب من هذه المياه وأروي عطشي؟ 
وضعت الأم على فم القدر بعضًا من نبات العشبة الشوكية المتشابك بشدّة وقامت بتمرير المياه التي أخرجتها من البئر عبره أولا فصفّت الماء وأصبح نقيًا صالحًا للشرب. شرِب الصبي وأمه مياهًا نقية بفضل العشبة ولم يظمآا بعد ذلك.
ولما حلّ المساء وأصبح الجو باردًا رطبًا أراد الصبي وأمه أن يهجعا إلى النوم والراحة لكن أرض الحجرة كانت باردة وأطار البرد النوم من عينيهما. 
جمعت الأم مرة أخرى من عشبة الشوك وضربتها بالعصا مرات عدة حتى تناثر الشوك بعيدًا عن أوراقها وملأت بالأوراق جوالا كبيرًا وصنعت منه فرشًا ناعمًا ونامت الأم وابنها حتى قدوم الصباح وقاما شاعران بالانتعاش والسعادة.
حرث الصبي شقّ في الأرض وزرعه بالحنطة لكن العصافير هبطوا على الشق وأكلوا الزرع. 
غضب الصبي وصاح: لا أعرف كيف أقاوم تلك العصافير! فهم يأكلون كل الزرع الذي بالشق!
جمعت الأم من العشبة ذات الشوك وصنعت منها غطاء للمزروعات فلم تتمكن العصافير مرة أخرى من الهبوط على الشق المزروع.
تناول الصبي وأمه في الظهيرة قليلا من العسل المتبقي من خلية مهجورة بجزع أحدى الأشجار وبعد الطعام سقطت الأم مريضة وخشيت على نفسها من فقدان الوعي. 
أمرت الأم ابنها وقالت له: أسرع وجهّز لي مشروبًا من جذور العشبة الشوكية لأتناوله وأبرأ). صنع الصبي كما طلبت الأم وشربت العصير وتماثلت للشفاء على الفور.
حينئذ أدرك الصبي أن العشبة الشوكية حقيرة الشكل هى صديقة مخلصة للإنسان. ولما كبر بنى بيته الجديد بجوار العشبة الشوكية واستمر أحفاده الكثيرون الاستعانة بهذه العشبة إلى يومنا هذا. 
******************************************************
وهكذا يعرف الإنسان أن لكل شيء خلقه الله فائدة قد لا تخطر على باله إلا إذا فكر وبذل جهدًا في إدراك الأمور ولا يحقّر شيئًا, وقد تتشابه هذه الحكمة مع الحكمة العربية القائلة, التي قالها ابن المعتزّ:
(لا تحقرَّن صغيرًا فإن الجبال من مستصغر الحصى)
د. سامي الإمام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق